{ عَلَمٌ في البال } علي اليدري علمي / المغرب


{ عَلَمٌ في البال }
علي اليدري علمي
المغرب
 
يمر معنا في الحياة كثير من الأشخاص، ويصرون على الشخوص في كياننا، بسطوع لا يخبو، مهما تقادم الزمن، لأنهم قاموا تجاهنا بفعل ذي أثر، وما أَجَلَّهُمْ عندما يكون هذا الفعل جميلاً، لكن جلالهم يعظم، عندما يكون فعلهم يتجاوزنا كأشخاص، ويمتد بجميل أثره في أوسع نطاق.
وإذ نستحضرهم لجلال قدرهم، نذكرهم، ونتذكرهم بجميل عملهم، وهم بذلك جديرون، إنما نستحضر منهم القيمة المطلقة لفعلهم، لتكون موضوع تأمل وإشادة وتعزيز، واستثمار لجدواها في إضاءة مسار سعينا من مرجعية واجب تعهد جليل القيم.
أتحدث عن أحدهم اليوم، وبيني وبينه مسافة ما ينيف عن خمسين عاماً، لكن دفء حضنه ما بارحني يوماً، وقد وجدتني أتقرب منه أكثر فأكثر، كلما تقدمتُ مسافة في مسار التربية والتعليم.
في الصف الثاني من مساري التعليمي، شاءت معادلة القدر المبهمة، أن يكون معلمي المسمى " سي أحمد الخمال"، انتهى إلى مسامعنا أنه من مدينة تطوان، الحمامة البيضاء، وأستلهمُ اليوم وداعة الشخص، وعلاقته بعين المنبت، ومن منا لا تشع فيه تطوان نوراً وهو حتى يتذكرها، وبالأحرى أن تكون له موطئ زيارة، أو استقرار.
شاب مربوع القد، بشير الطلعة، أنيق المظهر، يستقبلنا — نحن تلامذتَه — كل صباح، بابتسامة ملائكية، تطرد منا شوائب الهلع، وظنك الواقع، وتعبد قبالتنا طريق الأمل... هكذا نلج قاعة الدرس بعشق تحصيل منقطع النظير، وأعجب اليوم، كيف أصبحت المدرسة أَحَبَّ إلينا من بيتنا، هكذا كنا نتدفق حينه، ونتهامس اليوم بإجلال.
لا أتذكره يوماً ما لوّح بعصاً ترهيباً، أو كشر عن ناب إلا بابتسامة ترحيب... نبدأ حصتنا بترديد نشيد ما من الأناشيد التي مهر في تقديمها لنا، جميلة الإيقاع، متنوعة المواضيع، بكلمات وديعة، وبتلحين آثر. أحببناها كثيراً، بقدر حبنا لمقدمها، تلذذنا الغناء بها حتى بعيداً عن المدرسة، هائمين في بهاء الحقول والغاب، أو على ضفاف الوديان، بل أبعد من ذلك، كانت هذه الأناشيد مدخل حبنا لكل مواد البرنامج، فما أعظمك أيها المربي القدير ! كيف أمسكت بمفاتيح رسالة التربية والتعليم، منذ ذلك الزمن القديم؟ !
كنا ما يناهز ثمانية وعشرين من المتعلمين، ضمننا تلميذتان لا أكثر، فأستحضر بالمناسبة، ذلك الطوق من التقاليد، الذي كان يحرم العنصر النسوي من التعلم حينها، وأنا أشاهد اليوم اكتساح المرأة لفضاء الشغل، وبراعتها في كثير من الميادين، أوثق بتقدير هذه الثورة الاجتماعية التي أنجزها المغرب في الميدان، والتي كان لها أكبر الأثر فيما تحقق من تنمية، رغم حبل الانتظارات الطويل.
أعجب لمعلمي كيف استوعب هذا الوضع، ودبره بحكمة، حصنت التلميذتين ضد كل أشكال التحرش والتنمر، وتحسستا، في ظل جو من الديمقراطية، كثيراً من الأمن والاطمئنان، فانخرطتا بكل ثقة، في تنافسية تحصيل، لا تمييز فيها بين ذكر وأنثى... فتحية له من مرب مستنير.
أنا ابن المنطقة الجبلية الريفية، بزخم ثرائها، لكنني أعزو إليه فضل استكشافي لها، فقد علمنا كيف نسبر بعيوننا مكامن الجمال، وكيف نفغر حواسنا، ونهيئها لارتشافه، ولم يكن منه ذلك خطاباً روتينياً مملاً، بل ممارسة في الميدان، من خلال إنجازه رحلات لفائدتنا، ما يزال رسغ متعتها يسري في أوردتنا، ويستجيب لها القلب نبض حب وتقدير.
الأحد يوم عطلة، كما هو معتاد في مدارسنا، لكن عطلتنا ذات أحد، بمدرسة سيدي علي بن داود، التابعة حالياً لإقليم تاونات، وسابقاً لإقليم تازة، كانت بنكهة خاصة، حيث موعدنا لأول مرة مع رحلة مدرسية بحمولة تربوية.
قبل يوم الرحلة، نسق معلمنا العمل مع بقية الأطر التربوية العاملة، وقام كل واحد منهم بتعبئة تلامذته لهذا النشاط، وقد اقتضى أن نحضر نحن التلاميذ، ببذلة رياضية، ووجبة غذاء خاصة، بعد أخذ موافقة أولياء أمورنا، الذين لم يخفوا دهشتهم من هذه المبادرة، وموافقتهم بقدر من التوجس.
صبيحة يوم الرحلة، اكتظت ساحة المدرسة بالتلاميذ، وانتظمنا صفوفاً، بتعليمات من الأطر المشرفة، ثم انطلقنا مثنى مثنى، في اتجاه الغابة الواقعة على بعد بضع كيلمترات، على إيقاع وأهازيج الأناشيد، وقد بدت لنا الغابة، بأشجارها المتنوعة، من سنديان وعرعار وسرو وحشائش أخرى، عند إطلالنا عليها، كأنما تقف منشرحة، ترحيباً بنا، ونحن نصدح في اتجاهها:
هل رأيت الغاب مثلي ^^ منزلا دون القصور
واااتتبعت السواقي ^^ وااتسلقت الصخور
عند محطة الوصول، لم يتمالك بعضنا فضوله، فوجدتنا نرتمي في الغدائر الصافية التي تتخلل مجرى نهر "صنهاجة"، الذي أقيم عليه حالياً سد " اسفالو"، فيما انصرف بعضنا الآخر إلى صيد الأسماك التي تتراقص إغراء في عذوبة المياه.
عجباً، كيف استطاع المشرفون على الرحلة لملمة تدفقنا، ووضعه في إطار محكم، فقد كانت صفارة معلمنا تنبيها للالتفاف حوله، قصد التزود بتوجيهات ما، هكذا كان التئامنا حوله، لتنفيذ برنامج من الألعاب الرياضية، مثل الجري، والقفز.
على مدى أربع ساعات، أو ما ينيف، كان تدفقنا بكل غلو، وعندما نال منا التعب، ولوحت الشمس بالمغيب، جاءت الصافرة تنبيهاً للالئام من جديد، وهذه المرة لتناول وجبة الغداء، على إيقاع تنكيت من بعض المهرة في الميدان، ومن مسافة غير بعيدة، يصلنا نداء بعض الزملاء للشرب من نبع زلال يتدفق بجوار النهر.
متعة يتعذر على القلم الإحاطة بوصفها، سوى الإحساس بتوهجها ما يزال متأججاً فينا إلى حيننا، نستلهم منه بعض السنا لمد الخطا، كما أضاء في حينه طريق عودتنا إلى حال السبيل، فكان الفراق على إيقاع نشيد:
نادى الرحيل بالفراق ^^ هل بعده لقاء
نادى الرحيل بالفراق ^^ هل في اللقاء رجاء.
أستاذي "سي أحمد الخمال" ، أيتها القامة التربوية، التي ما تنفك تهدينا على المسار، وأنت تزاول امتدادك فينا عبر كل هذه المسافة العمرية، نتذكر بإجلال، ضمن ما علمتنا من دروس، أن أجمل وداع للمدرسة هو الذي يكون بإيقاع الفرح، ذلك ما يظل شاهداً عليه حفل نهاية الموسم الدراسي، الذي نظمته لفائدتنا ذات العام.
في نهاية الموسم الدراسي، كان موعدنا مع حفل تربوي بهيج، لا يستمد بهجته من نفائس التأثيث، وترف المأكل والمشرب، إذ لم يتجاوز الأمر مشروب شاي وبعض الحلويات، في أوانٍ بسيطة، بل يستمد بهجته من أشعة الفرح المنبعثة من عيوننا، ونحن نرصد أو نمارس طقوس هذا الحفل بخشوع غارق.
في ركن من ساحة المدرسة، رصفت الطاولات التي انتظمنا فيها جلوساً، نرشف بانتشاء كؤوس الشاي، التي أعدها حارس المدرسة، مع بعض الحلوى، ونشاهد العروض الفنية والرياضية المقدمة من طرف التلاميذ، بعفوية، وبكثير من الحبور.
ثم كانت لحظة الختام، بفعل يرسخ فينا النور أبد العمر... هي لحظة توزيع الجوائز، التي نال منها كل واحد منا نصيبه، فقد كانت بقدر عددنا، في تناغم مع ميزة كل تلميذ، بسيطة في قيمتها، لكنها عميقة في دلالتها، فذي ريشة ومنشفة لأجود الخطاطين، وذا قلم رصاص وممحاة للماهرين في الرسم، وذي مصاحف لأجود حافظي وترتيل القرآن الكريم، وهذه قصص للمتميزين قراءة وحكياً، وهذه دفاتر وأغلفة للمتميزين تحصيلاً... فيا لها من فرحة عارمة شعلت جذوتها فينا منذئذ ! وما تزال مستمرة إلى الآن.
من المحتمل جداً أن أستاذي الجليل سي أحمد الخمال لن يطلع على ما كتبت عنه تقديراً وإجلالاً، ليستشعر ما هو جدير به من زهو، لكنني واثق أن كل قراء هذه التدوينة سيخصونه باحتضان جميل، ويستنيرون في حياتهم بلمساته التربوية التي لا أحد يشكك في شهوق قيمتها. فاللهم انعم عليه برحمتك، حيثما كان يحل، وطوبى لكل من نذر حياته عملاً لا تنقطع منفعته.
 
علي اليدري علمي
المغرب

 


 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في رواية "عِقد المانوليا" للكاتبة المغربية نعيمة السي أعراب بقلم الناقد عز الدين الماعزي

"العزيف" / نص مسرحي من فصل واحد / الكاتب والمخرج العراقي منير راضي / النص الذهبي الفائز في مسابقة الرؤى المسرحية 1 / السلسلة الثانية 2024 / في إبداع النص المسرحي من الفصل الواحد

{ سيدتان عالمتان بسري } قصة قصيرة / الأديبة الروائية والقاصة السودانية الأستاذة مروة أسامة.