دراسة نقدية في رواية "والله إن هذه الحكاية لحكايتي" للكاتب المغربي الدكتور عبد الفتاح كيليطو / الناقدة المغربية الدكتورة عتيقة هاشمي.


              * محطات نقدية *

مع الأديبة والمترجمة المغربية الدكتورة عتيقة هاشمي.

                  Atika Hachimi 

1/ الدراسة الأولى:

في رواية: "والله إن هذه الحكاية لحكايتي". 

للكاتب المغربي الدكتور عبد الفتاح كيليطو.


= قراءة في العتبات:

* مدخل: 

إن محاولة إيجاد تعريف شامل وشاف للرواية يظل مبهماً، ذلك أن هذا الجنس الأدبي الذي ظهر في القرن التاسع عشر متجدد ولا نهائي، على حد تعبير "ميخائيل باختين"، من أن الرواية جنس أدبي "غير مستقر وغير مكتمل وغير مغلق"، وبالتالي يكون مشرعاً على كل الأنواع المختلفة من الرؤى.

وأكثر ما يميز الرواية هو عنصر التشويق، خاصة إذا كان الكاتب يمتلك آليات السرد، ومتمكناً منها.

والرواية المغربية — كنظيرتها في الغرب — قطعت مراحل طويلة من أجل إثبات وجودها، حيث أصبحت تعبر عن رفضها للقوالب الجاهزة من جهة، ومن جهة ثانية باتت تعرب عن قلقها على مستوى الشكل والمضمون من خلال التحول الذي تخضع له، لأن الكُتُّاب لا يفتؤون يلتزمون بمسار معين حتى يغيروه بحثاً عن غيره، وهو ما يطرح أمام المتلقي صعوبات في تنميطها.

إن هاجس التميُّز أضحى ديدن الكتاب، وقد دفع بهم إلى إيجاد مقاييس جديدة ترتبط بالتغيير في محاولة لكسر النماذج الكلاسيكية، والبحث عن لغة جديدة تمتح من مرجعيات فكرية وثقافية وفنية لابتكار نص روائي يجمع بين الواقعي والمتخيل، ويربط جسر التواصل مع المتلقي.

ولعل من الأسماء المغربية التي راهنت على هذا الجنس الأدبي نجد الدكتور "عبد الفتاح كيليطو" الأديب والناقد والروائي المغربي. اتسمت كتاباته الروائية بتنويعاتها السردية، ولغتها الحبلى بالدلالات، وقد جاءت روايته "والله إن هذه الحكاية لحكاتي" لتعزز الإنتاج الإبداعي، حيث نقل إلى المتلقي أجواء محكيه بلغة سلسة واضحة لا تخلو من الشاعرية، من قبيل: (ما يؤثر أكثر في هذا المشهد ذي الصبغة الوجدانية المميزة هو حرص نورا على توديع حسن / خرج من الثياب عشر بنات أبكار، يفضحن بحسنهن بهجة الأقدار / أشرف على الهلاك بسبب الغرام / على الشجرة خلف منزلنا بنى اللقلاق عشه... يرحل في الخريف ويعود في الربيع …)، وتحيل ضمنياً على امتلاكه مهارات عالية في حصر عوالمه.

يبدو أن الرواية اشتغلت على حيز جغرافي كبير (المغرب / نيويورك / إشبيلية / الولايات المتحدة / السوربون...)، وحيز زماني أكبر، مستعرضاً جملة من أعلامه وكتابه، يمتد من القرن الأول الهجري، حيث استحضر عبد الفتاح كيليطو أبرز شخصية من علماء الإسلام وهي "القاضي الحسن البصري"، يقول: (أرى أنني أخلط بين قصتين...، إنني، بالإشارة إلى حكاية حسن ميرو، تحت تأثير حكاية قديمة، حكاية حسن البصري) ، مروراً بالقرن الثاني الجهري مع "عبد الله بن المقفع" وكتابه "كليلة ودمنة" ، و"الجاحظ" صاحب "رسالة التدوير والربيع"، وقد تأثر به" أبو حيان التوحيدي" الذي سيلتقي به القارئ في المتن الروائي، وهو من رواد الأدب والتصوف والفلسفة في القرن الرابع الهجري، وسيقف كيليطو مطولاً عند كتابه "مثالب الوزيرين"، وقد ألَّفَه في "ابن العميد" و" الصاحب بن عباد" بسبب خصامه معهما، كما أتى على ذكر "ابن النديم" من خلال كتاب" ألف ليلة وليلة" على اعتبار أنه أول من عمل على ترجمة قصصه من الفارسية إلى العربية، وكذا "ياقوت الحموي" في القرن السادس الهجري، و"ابن خلِّكان"، صاحب كتاب "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان"، في القرن السابع الهجري، وصولاً إلى القرن العشرين ميلادي، حيث يعرج كيليطو على الكاتب المصري "توفيق الحكيم"، والكاتب الفرنسي "جورج برنانوس" صاحب كتاب The Diary of à" Country Priest" ، و"جوستاف فلوبير" ، و"ميشيل دي مونتين"، و"انجيلا كارتر"، و"فرانز كافكا" ، و*فيودور دوستويفسكي"، و" لوي فرديناند سيلين"، و" جوزيف ماردروس"... هو مسار زمني طويل وحافل احتفت به الرواية. 

يثبت البناء العام في تجربة "عبد الفتاح كيليطو" أن فعل الكتابة مشروع فكري تاريخي ينهل من الرغبة في التصحيح عبر فعل القراءة، إذ إنهما ينصهران في بوتقة موحدة، منتجة لفعلين يكمل أولهما ثانيهما، وروايته" والله إن هذه الحكاية لحكايتي"، كباقي كتاباته، تعكس هذا التصور الذي طالما انحاز إليه كيليطو، فالحكي شكّل في روايته هاته تفصيلاً ملفتاً لوقائع وأحداث عاشها البطل "حسن ميرو"، وأشير إلى الطابع التسجيلي للكتابة الروائية عند "عبد الفتاح كيليطو" ، حيث يقدم للقارئ من خلال الكتابة الروائية تقريراً تاريخياً فنياً يثبت من خلاله رغبته في فهم المثقف الموسوعي، إذ تمكن في إطار عملية فكرية هجينة أن يحول الوقائع التاريخية إلى فن، والفن إلى تاريخ. 

هذه الكتابة التي تتأسس على استراتيجية الخطاب الجمعي والتحولات التي تحكم فئة من المجتمع تتلخص في شخصيات الرواية (حسن ميرو / حسن البصري / نورا / الأخوات السبع / التوحيدي / يوليوس موريس/ الأستاذ ع / الأم)، وقد حاول كيليطو أن يغوص في أعماقها، ويستجلي دواخلها وانفعالاتها، حتى إنه قد يخيل للقارئ أن الكاتب عايش هذه الشخصيات، أو ربما كانت تعكس جانباً من جوانبه الحياتية، والأكثر من ذلك، يبدو وكأنه يتمثل تمظهرها العام ورؤيتها للعالم. 

إن فضولنا لمقاربة تجربة "عبد الفتاح كيليطو" دفعنا إلى مساءلة العتبات النصية في روايته هاته، لسنياً وسيميائياً في علاقتها الجدلية مع باقي المكونات الأخرى، أملاً في الوصول إلى نقطة الالتقاء بين التجربة الروائية والعتبة، إذ كيف يساهم الخطاب المقدماتي في بناء دلالة النص؟

من المعلوم مدى الأهمية التي باتت تحظى بها العتبات النصية في الرواية الحديثة، إذ أصبح من المستحيل الاستغناء عنها، فهي ترتبط بالعوالم الداخلية للنص الروائي، وتساهم في تأسيس بنيتها الدلالية، "ولعل ولوج النص قد يكون مشروطاً بالمرور عليها، لكي يُسْتَدَلَّ بها في رحلة القارئ عبر المتن الحكائي، عن طريق المعايشة العميقة لهذه العتبات، والتي تتمظهر في العناوين، المقدمات، الذيول، الملاحق، كلمات الناشر، دور النشر، والكلمات الموجودة على الغلاف، إلى جانب الهوامش والشروح والتعليقات".


* عتبة لوحة الغلاف:

يعد الغلاف أول العتبات التي تطالعنا، وتشد القارئ وتستفزه عن طريق لغة العين التي تفرض عليه ضرورة التسلح بآليات التأويل التي تضمن له عملية الموازاة بين ما هو كاليغرافي، وبين ما هو تشكيلي، وبين العمل الأدبي، فالغلاف يتخذ أهميته انطلاقاً من المؤشرات المصاحبة له، وبالتالي نستشعر ذلك التعاقد بين الدال والمدلول الذي جاء به "دي سوسير" ، حيث نجد هناك نوعاَ من التآلف بين اللوحة كأيقونة وكدال بصري يحيل على الكثير من الإيحاءات السيميائية والتأويلات المتعددة لقراءته، وبين العنوان كمقولة كليغرافية لسنية.

وبتأملنا لوحةَ غلاف رواية "والله إن هذه الحكاية لحكايتي" سنلفيها ذات طابع تجريدي، إذ هي عبارة عن صورة امرأة تطير في فضاء أزرق، تفرد يديها وكأنهما جناحان... يقول الكاتب (بالضبط، توجد نورا، زوجة حسن، في الأعلى، على السطح، وقد ارتدت ثوبها من الريش، في ذراعَيْها طفلان نائمان، عُمُر أحدهما سنة، والآخر سنتان... إنها تنتظر منذ الفجر أن يستيقظ حسن... قالت: لم أكن أودُّ الذهاب قبل توديعكَ. ومباشرة، بعد ذلك، طارت وحلَّقت بعض الوقت فوق البيت، ثمَّ اختفت)، إن فعل الطيران هنا يحيل على القوة من جهة، ومن جهة ثانية يرمز إلى التعالي والرغبة في الحرية والانعتاق، وتخليص الروح من العبودية والتبعية، وهو ما نجحت نورا فيه، حيث استرجعت رداء (الريش) الذي سرقه منها حسن، فتحولت إلى أسيرة لديه بعد أن كانت حرة، فرداؤها هذا كان يسمح لها بالطيران، وهي جنية ابنة ملك الجن، وما ان استرجعته حتى أخذت طفليها معها وطارت عائدة إلى مملكتها. نلحظ أن رأس المرأة مصوب في اتجاه الأمام، تحمل وجهاً بدون عينين، وهو ما يثير لدينا نوعاً من الغموض، إذ ربما تكونان قد سقطتا من الرسام سهواً، وقد يكون الأمر متعمداً، فيكون ذلك دليلاً على أنها تجهل وجهتها، ذلك أن العينين مصدر الرؤية.


* عتبة ألوان الغلاف: 

معلوم أن اللون بدوره يشكل علامة بصرية ذات أبعاد دلالية ورمزية، تساهم في تكثيف دلالة النص عبر ما تثيره في نفسية المتلقي. فعلى الواجهة الأمامية للرواية نجد أن المرأة تسبح في لون موحد، هو اللون الأزرق الذي يحيل على ثنائية ضدية تجمع بين الثقة، والذكاء، والسلطة، وبين السلام، والصفاء الروحي والشعور بالحرية أكثر، إنه لون يعزز التعبير عن الذات، وهو ما سعت إليه الشخصية البطل (حسن) في الرواية رغم الضياع الذي اعتراها طيلة الرواية من توجسها حيال موضوع أطروحتها، وكتاب "المثال" الذي أجبره الأستاذ المشرف على قراءته. في حين يستقبلنا اللون الأحمر على الواجهة الخلفية وقد كتب عليه نص قصير مقتطف من كتاب "ألف ليلة وليلة" ، يقول: (في الليلة الواحدة بعد الألف قرَّرت شهرزاد، وبدافع لم يُدرَك كنهه، أن تحكي قصَّة شهريار تمامًا كما وردت في بداية الكتاب، ما يثير الاستغراب على الخصوص أنه أصغى إلى الحكاية، وكأنها تتعلَّق بشخص آخر، إلى أن أشرفت على النهاية، وإذا به ينتبه فجأة إلى أنها قصَّته هو بالذات، فصرخَ: والله، هذه الحكاية حكايتي، وهذه القصَّة قصَّتي)، هذا اللون الأحمر يتميز بإثارة الحواس، وقد تم توظيفه من أجل لفت الانتباه في إشارة إلى الحاجة الماسة إلى الإحساس بالانتماء، ذلك أن الكاتب في استعراضه أحداثَ الرواية كان يروم الوصول إلى اليقين عبر الحفر في التراث العربي القديم.

على الوجهة الداخلية لظهر الغلاف والتي جاءت باللون الأزرق، نلحظ أنه كتب عليها مقطعاً من الرواية يوثق لبدايتها.

أما على الجهة الداخلية للواجهة الأمامية، فنلحظ أنها جاءت باللون الأصفر، وهو من الألوان النورانية المضيئة، إذ يعتبر مصدر ضوء، لذلك يحيل على التوهج والحياة، وهو ما يعكس نفسية بعض شخوص الرواية، منهم "حسن البصري" بعد أن حصل على الجنية وتزوجها وأنجب منها طفلين، وكذا نورا وهي تقبل على قراءة كتاب "المثالب" للتوحيدي، كما قد يدل اللون الأصفر على نقيض ذلك حين يحيل على الحزن والألم كحسن البصري بعد أن رحلت عنه زوجته آخذة معها ابنيها، و"حسن ميرو" في خوفه من قراءة كتاب المثالب وما يمكن أن يجره من لعنة عليه. 

كتب على هذه الواجهة نبذة للكاتب عبد الفتاح كيليطو، مرفقة بمجموعة من عناوين لأعماله.

بملاحظتنا الدقيقة لألوان الغلاف، نجد اللون الأبيض مشتركاً بينها، إذ استعمل للثوب الذي ترتديه المرأة وتتخلله أشكالاً هندسية، كما تم توظيفه في الكتابة، ما جاء منها بخط مضغوط كالعنوان (والله إن هذه الحكاية لحكايتي)، أو ما جاء بخط عادي، وهو جنس النص (رواية)، وقد بدا واضحاً وساطعاَ، وله قدرته على كسر قوة اللون الأزرق، ويرمز في العمق إلى الصفاء، كما يبعث على الراحة، إذا وقعت عليه العين زيادة على اللون الأسود الذي كتب به اسم الكاتب عبد الفتاح كيليطو بخط مضغوط كبير أسفل الغلاف، ولعل اللون الأسود يدُل على الغموض، والتمرد، والجاذبية، والتحدي وقوة الإرادة، وأعتقد أن جميعها سمات مرتبطة بشخصية الكاتب عبد الفتاح كيليطو، ذلك أن هاجس الثقافة والأدب، قدميه وحديثه، يسكنانه فلا يفتأ يهدأ من طرح السؤال.

كل هذه الألوان الحبلى بالدلالات الإيحائية تجعل العتبات تنفتح على التأمل اللامحدود، وتتيح الغرق في عمق الخبايا.

ولعل توظيف الكاتب لهذا المزيج منها، وبهذا الشكل، كان ليفتح شهيّة القارئ على استكناه دواخل الرواية.


* عتبة العنونة:

لقد رأى عدد من الباحثين أن العنوان مسند إليه عام، وباقي المكونات النصية فروع معززة ومسندات له، في حين اعتبره الأخرون نصاً موازياَ يندرج ضمن النص المحيط، وذلك لتأثيره البصري، ولأنه علامة الكتاب التي تحتل أبرز مكان على الغلاف، والذي ينبغي أن يتصف بالوضوح والبساطة من حيث يلتقطه المتلقي ويستوعبه عقله بسرعة، لذلك فهو أهم العتبات التي تسمح بالولوج إلى أعماق النص. وبتأمل عنوان الرواية "والله إن هذه الحكاية لحكاتي" نجده عبارة عن مقولة مركبة، تستضمر كائناً لغوياً يكمل جانبها اللسني والدلالي، فهي مقولة اسمية مكونة من اسم الجلالة ويفيد القسم، وناسخ حرفي مقرون باسمه وخبره. وكون العنوان جملة اسمية، فهذا يوحي بثبات حال معين، أما من حيث الدلالة، فالعنوان يشكل بؤرة دلالية، والمتمعن فيه، إذا ما قارنه بالمحتوى المسرود، سيلفي الخيط الذي يحبكه، إذ يمتلك سلطة نصية تجعل منه نواة دلالية رمزية، فهو معبر إلى بناء تمثل مغاير، حيث نجد السارد يذكره على ظهر الغلاف، وربما منه استمد بعضاَ من أحداث الرواية، خاصة أنه يشير إلى حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة. 


* عتبة التعيين الجنسي:

تشكل العتبات النصية جسر التواصل بين محتوى الكتاب والمتلقي، ومن ثمة، فهي بالإضافة إلى كونها مواقع نصية انتقالية، فهي مواقع تعاقدية، توجد على صدر الغلاف، وموجهة مباشرة إلى جميع القراء، مما يولد تبايناً في مستوى التلقي، ومن هذه العتبات، إعلان الكاتب عبد الفتاح كيليطو عن جنس عمله الذي يرد هنا في (والله إن هذه الحكاية لحكايتي) أعلى الغلاف، حيث يصرح أنه (رواية)، وبالتالي يسهل على القارئ عملية بناء استراتيجياته، واختيار آلياته التي يجب أن يتسلح بها من أجل تشريح جسد المحكي. وأعتقد أن اختيار الكاتب هذا التجنيس كان عن وعي مسبق، لأنه أدرك أنه وفِيٌّ لمعاييره ومقاييسه، ولأن فن الرواية من أكثر الفنون قدرة على التمرد والتعبير بجسارة عن نتوءات الذات الإنسانية، وعلى استيعاب البنيات الثقافية والاجتماعية والذهنية للإنسان، كما أنه يشكل بؤرة التصدع في المجتمع، والقادر على احتواء الهم الإنساني في عموميته وشموليته، حتى إن البعض يعتبره لقيطاً بقدرته على احتواء باقي الأجناس الأدبية الأخرى، إن كانت قصة أو حواراً مسرحياً أو شعراً... 


* عتبة العنوان الإشهاري:

يتجاوز هذا الأخير الجانب الفني والدلالي للنص إلى ما هو إشهاري تجاري، ويتبين الغنى الإشهاري لرواية "والله إن هذه الحكاية لحكايتي" الذي يتجلى في سنة الإصدار 2021، وعدد الطبعات، وهي الأولى، ومكان إصدار المنتوج وهو "ميلانو / إيطاليا"، والمطبعة التي سهرت على طبع الرواية ونشرها وتوزيعها "منشورات المتوسط"، وهي دار نشر مستقلة وذائعة الصيت، وتنشط في البلدان العربية، وتنشر الكتب في مجالات الأدب والفكر والثقافة عامة، بما يخدم كل ما يؤدي إلى تحقيق تغيير جذري، ويشاكس كل ما هو سائد ومستقر، ويعكس ذلك شعارها المتمثل في الشخصية الشهيرة "لميغيل دي ثيربانتس سابيدرا" وهي "دون كي خوتي ديلامانثا" ومقولة (معا لنصارع طواحين الهواء)، وهو ما يتوافق مع مطمح الكاتب الذي يسعى بسرده إلى أن يرفع صوته عالياً أن محتوى الرواية هو حقيقة تعكسه.


*عتبة  التصدير:

تظل العتبات ملحقات تحيط بالنص، حيث تنتج خطاباً ميتاروائياً عن طريق النص الإبداعي، ومهما ادعت استقلاليتها عنه، إلا أنها تبقى مرتبطة به، لذلك وجدنا أنفسنا ونحن نقلب الصفحات الأولى للرواية أمام عتبة تصديرية، ولأن هذه العتبة تتعدد وظائفها بين وظيفة تداولية واضعة لطريقة تُسَنَّن بها القراءة الواقعة في قلب الحوار الناشئ بين النص والحكمة التي رجع إليها الكاتب، وبين وظيفة توجيهية، تهدف إلى إبراز استراتيجيات الاستقبال لدى المتلقي، وتحديد مسارات التلقي لديه، ويرى "جيرار جينيت" بأن هذه الأخيرة عبارة عن (اقتباس يتموضع عامة على رأس الكتاب أو في جزء منه… يأتي بها الكاتب ليس فقط لما تقوله، لكن ـ أيضاً ـ من أجل قائلها)،  من هذا المنطلق ألفينا عبد الفتاح كيليطو قد وظف نصوصاً موازية، وهو ما يصطلح عليه بالتناص، وهي عبارة عن أقوال، منها قولة تعود لفرانز كافكا مقتطفة من روايته المحاكة (ما كان ينبغي أن أعيش على هذا النحو)، عبارة وردت في الصفحة 7، (النظرة تعقبها ألف حسرة)، عبارة مأخوذة من كتاب الليالي لجوزيف ماردروس، وعبارة (هل رأينا إحدى النساء لها ثوب من الريش؟ فهذا لا يكون إلا للطيور) من كتاب ألف ليلة وليلة، وهو ما يدل على موسوعية ثقافته، زيادة على استعراض عدد كثير من عناوين الكتب سلف ذكرها، وقد وظفها توظيفاً يخدم بناء السرد.

والشيء الذي يمكننا أن نؤاخذ عليه عبد الفتاح كيليطو في هذه الرواية هو التغييب الكلي للكتاب المغاربة، ولا أعلم سبب هذا التغييب الكلى، لكن هذا لا يمنعنا من أن نقر أن هذه العتبات ساهمت في تشكيل مسار التأويل، وبناء صرح الدلالة الأولية، وتأثيت القراءة الافتراضية وتوجيهها.

خلاصة القول، لم يكتب لنا عبد الفتاح كيليطو، باعتباره روائياً جديداً رواية وفق منظور فطري عفوي وتلقائي، إنما كان يكتب بوعي وفق منهجية صارمة، تعتمد من جهة على خبرته الحياتية، وهو الذي ولج دواليب الجامعة المغربية منذ 1968، ومن جهة أخرى على معرفته بالبنيات السردية التي اطلع عليها، وراكمها كقارئ نهم، وكناقد وكاتب روائي.


د. عتيقة هاشمي.

المغرب.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في رواية "عِقد المانوليا" للكاتبة المغربية نعيمة السي أعراب بقلم الناقد عز الدين الماعزي

"العزيف" / نص مسرحي من فصل واحد / الكاتب والمخرج العراقي منير راضي / النص الذهبي الفائز في مسابقة الرؤى المسرحية 1 / السلسلة الثانية 2024 / في إبداع النص المسرحي من الفصل الواحد

{ سيدتان عالمتان بسري } قصة قصيرة / الأديبة الروائية والقاصة السودانية الأستاذة مروة أسامة.