"ذاكرة الرؤى... محطات استرجاع أعمال مائزة" / الأديبة المغربية الأستاذة ليلى عبدلاوي
الرؤى... أقلام مائزة.
"ذاكرة الرؤى... محطات استرجاع أعمال مائزة"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأديبة المغربية الأستاذة ليلى عبدلاوي.
Leila Abdallaoui
Leila Abdallaoui
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بعض من سيرة عطرة:
ليلى عبدلاوي؛
ليلى عبدلاوي؛
- أستاذة لغة عربية.
- حاملة شهادة الإجازة في الأدب العربي من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة / فوج 1983.
- كاتبة خواطر، وقصيد نثري، وقصص قصيرة.
- صدرت لها مجموعة قصصية أولى بعنوان (زوابع الصمت) / نونبر 2017 / دار النشر "مقاربات".
- وصدرت لها مجموعة قصصية ثانية بعنوان (ليل وأسوار) / يوليوز 2024 / دار النشر "مقاربات".
- شاركت بقصتين قصيرتين في الكتاب الجماعي الصادر عن نادي القصة السعودي سنة 2018 (مرآة السرد وصدى الحكاية).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إضمامة سردية:
1/ صفاء.
1/ صفاء.
قصة قصيرة.
امتزجت روحها ببياض النرجس ذلك الصباح، تتفرس في المرآة متسائلة عما بقي من آثار الليل على محياها، تتأمل حركات الحمامة تلتقط حبات القمح المتناثرة على الشرفة.
وجع بلون الموت يزورها كلما تذكرت الهزيمة، تحاول الهروب، تفكر، سلطان الذكرى يلاحقها رافضاً المغادرة، مصراً باستماتة على البقاء، هواجس المأساة تحل عليها دون دعوة ذاك الصباح، يرتجف قلبها لمجرد التفكير أنها قد تعود يوماً.
أقارب كالعقارب، أنيابهم كحدود الرماح يضحكونها لحد الانفجار باكية، وجوه اضمحل لديها الفرح، نظرات كالشهب أحرقت ما تبقى لديها من آمال فأحالتها رماداً.
عمر بلون الزيف لا يريد أن ينتهي، نحول وشيب قبل الألوان، تنكسر المرآة، يستقبلها الحرف بالأحضان، منزلك الآن ومدرستك رسمتا بريشة وألوان، الدفء يسري على الورق.
يتسارع العمر، تتلاشى الأحلام، وراءها كتلة رمادية اللون وغصة بالحلق، على جفنيها المتورمين غطاء ثقيل، الصمم يغلف مسامعها، لا ترى، لا تسمع إلا حثيثاً من أصوات ضباب.
قطع عليها هواجسها صوت والدتها المتقطع:
- نادية تعالي يا حبيبتي، حان موعد الدواء.
- حاضر يا أمي، سآتي حالاً...
اتجهت إلى حيث الدواء، راعها أن مستوى الماء في الزجاجة قد هبط إلى الأسفل، التفتت إلى أمها قائلة في نبرة لوم:
- لقد شربت يا أمي كل ما في الزجاجة تقريباً... ها أنت الآن تخالفين أوامر الطبيب ! تسرعين بنفسك نحو الهلاك !
- وما أدرى الطبيب بالحياة والموت؟ إنه إنسان مثلنا؛ يتناول القوت وينتظر الموت، لن أموت إلا حينما ينتهي أجلي.
على الورق الأصفر، تولد أحلامها وتنمو دون فطام، يشرئب قلبها للنور الذي غاب، ومن وراء كتلة الضباب المسودة، يتراءى شعاع بلون الرماد، أطيافه الباهتة تسخر من صمتها الطويل.
دخلت الشرفة البيضاء، نسيم الهواء يلاطف خصلات شعرها الفاحم، حبات القمح المنثورة ماتزال في مكانها، رفعت عينيها إلى الأعلى تتفقد أسراب الحمام.
- كيف السبيل إلى النسيان؟ كيف السبيل إلى النسيان؟...
سمعت طرقاً خفيفاً على الباب، فتحت، لمحت ثوباً داكناً أزرق وأزراراً ذهبية اللون، مدت يدها المرتجفة لتتلقف ظرفاً أصفر، تذكرة بيضاء، عليها خط أخضر، ملأ أريج مكة المكان، وعبقت بالعود والبخور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2/ النفق.
قصة قصيرة.
حين وصلَ إلى المحطة، كان المسافرون الذين أقبلوا ليستقلوا أول قطار قد أخذوا أماكنهم على الرصيف وأخذهم العالم الافتراضي على هواتفهم... تطفو على وجوهم بين الحين والآخر ابتسامات... قصد غرفة الملابس، ارتدى حلة العمل.
بدا له النفق المظلم كأول طريقٍ يسلكه القطار وهو يغادر المحطة، لم يستطع أن يتغلب على شعورهِ بالرعب كلما تأمل منعرجاته الغريبة، على جدرانه ظلال يخيل إليه أنها تشير إليه أن يقترب... قصد مكان عمله متحاشياً النظر إليها.
لاحت له امراة شقراء تجرُّ حقيبة، ذكره لون شعرها بالفتاة الحسناء التي تزوجها منذ عقد من الزمن، طالما اعتبرها هدية من السماء... حياة مرت عليهما كالحلم، زينها ثلاثة أطفال، أقبلوا تباعاً، استقبلوا بحب، واستمرؤوا رعاية أبوين شغوفين... لكن سقطة من أعلى الدرج منذ سنتين غيرت حياة الأسرة رأساً على عقب.
تعيش الآن معه بجسد غائب عن الوعي، على محياها قناع لا يعرفه... قد تستعيد ذاكرتها للحظات، تبتسم للأولاد، تقبلهم... قد تنهض من مكانها لتقصد المطبخ بفعل العادة، ثم لا تلبث أن تعود وهي تنظر إلى لا شيء.
القناع القاسي يحتل مكانه من جديد... تحتله رغبة في النوم، يغمض عينيه، يفتحهما، يقاوم الشعور بالتعب.
أعد للصغار طعاماً ليومٍ كامل، غسل ثيابهم، نظف المكان، وساعد ابنته الكبرى على الاعتناء بأمها... يتخيل ساعديها الصغيرين يشتغلان بهمة تجاوز سنها التاسع بكثير.
انتابه قلق؛
— هل أغلقت باب البيت أم نسيته مفتوحاً؟
يا إلهى !
قد تفعلها امرأته مرة أخرى وتخرج هائمة على وجهها ويضطر إلى البحث ثانية في كل مستشفيات المدينة.
ماذا أفعل ! هل استأذن رئيسي في العمل وأعود إلى البيت لأتأكد من إغلاق الباب؟ لكنني تجاوزت الحد المسموح لى في التأخر والغياب...
دمعت عيناه، الفرح غاب، وحياة أضاعت طعمها.
وفي المساء، يستقبله البيت بصمت... أطباق الطعام الباردة على المائدة فقدت نكهتها منذ ساعات، خلف الستار يلاحظ الابنة الكبرى تتقمص دوراً يكبرها بكثير، وفي أعين الصغار أسئلة تنتظر الجواب.
تطّلع إلى مكتب الرئيس من خلال الواجهة الزجاجية، رآه يجلس في مكتبه... رجل أنيق يتأمل شاشة وينقر لوحة مفاتيح نافياً العالم من حسابه.
أحس باليأس، استعد للعودة إلى مكانه وهو يدعو الله في سره... لمحت عيناه شيئاً، تسمر في مكانه، لا يصدق ما يرى !
بدت له زوجته بلباس النوم تهبط الدرج المفضي إلى الأرصفة، ثم تخطو حافيةً القدمين نحو النفق.
اختلط صوت صفارة الإنذار بصوت فتاة تعلن عن انطلاقة القطار... أسماء مدن مجهولة تتمازج فى مسامعه... تستمر زوجته في التقدم، يناديها، يصرخ، يضيع صوته في الفضاء.
تتحرك القاطرة، يلوح الركاب بأيديهم... تقترب زوجته، يعلو الصراخ... يجري، يختنق صوته في حلقه... يقعى جاثياً على ركبتيه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3/ خريف بلون الدم.
قصة قصيرة.
أتأمل السماء من المربع الصغير، النجوم تومئ لي بميعاد الرقصة الأخيرة.
لرفاق الرواق نظرات وزفرات، يتحاشون النظر إلي..الأشجار تتعرى من أوراقها في انتظار اللحن الاخير.
أتأمل قسماتي في زجاج النافذة، غيوم وضباب، لحظ العين يغادرني.
دفء القلب يودعني، أصوات وظلال؛ تتردد في الممر، كأنها نوارس الشتاء، تستحم بالصقيع وتمضغ حروف عزائي، إنه الفجر، أسمع الشهادتين وصوت ابني الذي لم يولد بعد، شهيداً يمزق الصمت، يتوسل الى الزمن المستحيل.
كما العنقاء، أنشق من نار؛ أجر إلى الغرفة الكئيبة، تتراكم نداءاتي وترتطم بالخواء.
أحاول أن أترجل من نعشي، لأعود أدراجي.
لكن شمس الحق لا تموت، ولو موؤودة النجم والأقمار.
وحيدة أمي تسير في جنازتي؛
وحولها الغربان تلوك حكايتي، ويدعى اللئام إلى اقتسام وليمتي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إضمامة همسات صباحية:
1/ الحلم نفسه.
فتاة صغيرة تجري خلف عربة يبيع صاحبها حلوى... تنادي وتجري... تنادي وتجري... لكن البائع لم يسمع... لم يتوقف... لم يكن يعرف أنها لم تكن تشتهي الحلوى... ولا كانت جائعة حتى... بل كانت تبحث عن طعم الفرح.
ما يزال طيف العربة يتراءى... بين الفينة والأخرى... في اليقظة كما في الحلم... ومازالت هي تكرر المحاولة... تنادي بأعلى صوتها لعل البائع يسمع... ويتوقف... لكنها لاتسمع إلا صدى صوتها يعود إليها كليلاً مبحوحاً...
تجلس على حافة الدنيا تنتظر عربة أخرى تمر بها...لعلها هذه المرة تأتي بفرح حقيقي... لايمحي فجأة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2/ فرصة أخرى.
نتوقف أحياناً عن كل تواصل خارجي... ونحتضن ذلك السكون في هدوء قلوبنا... نتجه إلى الداخل... حيث تجاويف صافية لم تمسها فوضى العالم... نتوصل إلى حكمة الكون الواسعة.
في ذلك السكون الذي ينتفي فيه الزحام... ويمحي الزمان والمكان... نكتفي بالتواصل مع جوهر وجودنا... وتدفئنا أنوار مشعة.
نتنفس بعمق... ونتيح للهواء النقي أن يملأ صدورنا...
ومع كل شهيق... وزفير... نتحرر من أعباء الماضي ومخاوف المستقبل... نعانق بهجة الحاضر... نستمرئ طعم الحرية... وتتفتح في أرواحنا براعم الأمل... مثلما تفعل الزهور بعد المطر...
ولا ننسى أن كل نفس نأخذه... هو تذكير بأننا مازلنا موصولين بعناصر الوجود... مازلنا ننعم ببقائنا في الحياة... ماتزال لدينا فرصة جديدة لنعيش لحظة أخرى... لنستمتع ونشعر... ونفكر... ونتعلم... ونسامح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3/ اختيار.
وأنت تستقل قطار العمر... تستوقفك محطات...
في كل محطة ينزل البعض من جوارك... ويصعد البعض الآخر ليتخذ مكانه بالقرب منك...
تتطلع إلى ملامح الركاب... وقد رسمت عليها تكاليف العيش نتوءات وأخاديد... فتتوصل إلى أن لكل واحد منهم حكايات لا تنتهي... وأن داخل أرواحهم دهاليز محملة بالألم والأمل... وأن حياة كل منهم معارك مغعمة بالحب تارة... وبالحرب أخرى...
وتستنتج...
أنك - ككل الآخرين الذين يشاركونك مقاعد هذا القطار - تعيش ماشاء لك الله أن تعيش في دنيا وليست جنة... فإما أن تعيشها بفهم سليم... أو تتحملها بهم سقيم... وإما أن تأخذ من دروسها دواء يحييك... ويجدد أيامك... أو داء يميتك... ويجعلك تشيب قبل المشيب...
عليك الاختيار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إضمامة بوح:
1/ لا تصطد في الماء العكر... ستتلوث أصابعك... ستشيخ روحك أكثر... ستذهب دنياك سدى... سينقضي ما تبقى من أيامك الغاربة في مراقبة الآخرين وهم يستمرؤون نعمة الحياة.
* ذات لحظة نيلية... على ضفة النيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2/ وتبقى الكتابة هي جنة الدنيا... هي المتنفس... هي الانسحاب إلى موطن آمن... حيث لا صخب ولا وصب... إلى مساحة لا يمسها ألم ولا اهتراء... إلى فضاء لا يعتريه ذبول..
وأنت تكتب... تشعرأن بصدرك أجنحة ترفرف... أن بروحك فيضاً يريد أن يبث... لكن قد يحدث أن أوراقك أحياناً ترفض استقبال سواد حرفك... وتصر على البياض...
توجه إذن إلى البحر... أو إلى نيل مصر... سيكرمك هذا الأفق الأزرق بالإنصات... سيربت على روحك... وستشفى... ستشفى من كل شيء...
(لك الشفاء من كل سقم أستاذتنا الفاضلة العميقة النبيلة).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= دراسة نقدية:
(تأملات في هشاشة الإنسان: قراءة في المجموعة القصصية "ليل وأسوار" للكاتبة المغربية الأستاذة ليلى عبدلاوي.
الناقد المغربي الأستاذ نور الدين طاهري. Tahri Noureddine
الناقد المغربي الأستاذ نور الدين طاهري. Tahri Noureddine
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المجموعة القصصية " ليل وأسوار" للكاتبة ليلى عبدلاوي تعد عملا أدبيا يتجاوز السرد التقليدي ليغوص في أعماق النفس البشرية ويطرح تساؤلات فلسفية عميقة حول معاناة الإنسان في مواجهة الواقع الاجتماعي القاسي. تتميز هذه المجموعة بتقديم قصص قصيرة مكثفة تُسلط الضوء على قضايا وجودية واجتماعية، حيث تنقل القارئ إلى عوالم موازية مليئة بالألم، الاغتراب، والأمل المفقود. الشخصيات التي تسكن هذه القصص تعيش على هامش الحياة، محاصرة في فضاءات معزولة بين الخوف واليأس، وأحيانا تتطلع إلى أفق ضبابي من الأمل الذي يبدو بعيد المنال.
عنوان المجموعة القصصية" ليل وأسوار" للكاتبة ليلى عبدلاوي يحمل دلالات رمزية عميقة تفتح أفقا واسعا للتأمل النقدي في العلاقة بين الظلام والقيود، وبين الوجود البشري في سياق من المعاناة والبحث عن الأمل. يمكننا النظر إلى العنوان كدلالة على حالة اغتراب وجودي يعانيه أبطال المجموعة، حيث يُمثل "الليل" الظلام الداخلي والخارجي الذي يطغى على حياتهم، في حين تشير "الأسوار" إلى الحواجز المادية والنفسية التي تحد من حريتهم، سواء كانت هذه الحواجز اجتماعية أو نفسية أو حتى فلسفية. الليل في العنوان لا يعبر فقط عن الظلام الجسدي، بل هو استعارة للظلام الوجودي الذي يعيشه الأفراد في عالم يسوده القهر واللامبالاة. الشخصيات في المجموعة تُحاصر بعوالمها الداخلية المظلمة التي تخلو من الأمل، وتحيا في صراع دائم مع واقع مرير. هذا الليل ليس مجرد غياب للضوء، بل هو استعارة لحالة من العزلة النفسية والاجتماعية، حيث يجد الفرد نفسه وحيدا في مواجهة عالم قاسٍ. أما "الأسوار"، فتُسهم في توضيح فكرة القيد والحدود التي يضعها المجتمع أو الذات على الإنسان. هذه الأسوار قد تكون في شكل قيود اجتماعية تحاصر الشخصيات وتمنعها من الوصول إلى حريتها أو تحقيق ذواتها، أو قد تكون قيودا نفسية، مثل الخوف، الندم، أو الشعور بالذنب الذي يحكم على الشخص داخل نفسه. الأسوار، في هذا السياق، لا تعني فقط الحواجز المادية التي تحد من الحركة، بل تبرز أيضا تلك الأسوار غير المرئية التي تقيد العقول والمشاعر.
الترابط بين "الليل" و"الأسوار" يبرز الصراع الداخلي الذي تعيشه الشخصيات. ففي غياب الضوء، تكون الأسوار هي تلك القوى التي تقيد الأفراد وتمنعهم من التحرر، مما يعكس حالة من الوجود المكبل والمظلم الذي يسعى الإنسان فيه إلى إيجاد معنى أو مخرج من تلك القيود. في هذا السياق، يمكننا اعتبار العنوان دعوة لفهم تلك التوترات الوجودية التي تمثلها الظلمات والأسوار، وكأنهما يشكلان ثنائية حاكمة في حياة الشخصيات، حيث تتعايش المعاناة والبحث المستمر عن الأمل. إن العنوان بهذا الشكل يكشف عن الطبيعة الرمزية العميقة للمجموعة القصصية، ويعكس رؤية الكاتبة ليلى التي تتناول قضايا اغتراب الإنسان، التوترات النفسية، والظروف الاجتماعية القاسية التي تحد من حرية الفرد. من خلال هذا العنوان، تدعو الكاتبة القارئ إلى التفاعل مع النصوص بتفكير نقدي عميق، مُتحديا إياه لفهم معنى الحياة في ظلال الليل وما بين الأسوار. المضمون في ليل وأسوار يعكس معاناة الإنسان ويعتمد على عدة محاور رئيسية تسعى إلى تسليط الضوء على الواقع المظلم. أبرز هذه المحاور هو الاغتراب الإنساني، إذ تعيش الشخصيات حالة من العزلة الداخلية والخارجية. في قصة أشلاء على السكة، يواجه البطل حياة مليئة بالعزلة المفرطة، ويُختزل وجوده في انتظار الموت البطيء، كما تقول الكاتبة: "كمن ينتظر موتا بطيئا... حي لا يعيش." هذه العبارة تُجسد حالة الاغتراب الوجودي التي تعيشها الشخصية، كما يصبح العالم من حوله غير ذي معنى أو تأثير. إنها صورة حية عن الحياة التي لا تقدم سوى الألم، والتناقض الذي يجسد الفصل بين الذات والعالم، ما يعكس بشكل دقيق حالة الإنسان المغترب في زمنٍ يضيق عليه أكثر. ثنائية الأمل واليأس هي عنصر آخر مهيمن في هذه المجموعة، حيث تبرز القسوة التي يواجهها الأفراد في عالم لا يمنحهم سوى القليل من الأمل. في قصة الشمعة، نجد الكاتبة توظف الشمعة كرمز يعكس حياة الإنسان التي تتضاءل ببطء ولكن لا تزال تمنح ضوءا ضعيفا وسط الظلام. تقول الكاتبة: "أيام عمره تتناقص كشمعة اشتعل فتيلها لزمن." هنا، الزمن يصبح عدوا خفيا يلتهم حياة الإنسان ويجهز على ما تبقى من عمره. ولكن، في الوقت ذاته، يُعتبر الزمن مؤشرا على الاستمرارية، حتى وإن كانت تلك الاستمرارية مليئة بالوجع واليأس. المزج بين شعور العجز والرغبة في الاستمرار يعكس الطبيعة المتناقضة للوجود الإنساني. أما المرأة فهي تمثل محورا أساسيا في المجموعة، وتلتقي معاناة النساء في هذه القصص بمسارات الحياة القاسية التي تفرض عليهن تحديات اجتماعية ونفسية معقدة. في قصة التائهة، تظهر البطلة محاصرة بصراعات نفسية واجتماعية متشابكة، إذ تتعرض للابتزاز النفسي والاجتماعي في عالم مليء بالفساد. الكاتبة تصور هذه الحالة بتعبير قوي: "رأت نفسها فريسة لوحوش تستعد لنهش لحمها." هذه الصورة تؤكد على أن المرأة في هذا السياق ليست فقط ضحية لتجربة معاكسة، بل تمثل أيضًا رمزا للنضال المستمر من أجل البقاء في بيئة قاسية. الكاتبة تمثل في هذه الشخصية حالة من التمرد على الواقع، حيث تبتكر صورة مرئية لفكرة الحرب النفسية التي تخوضها المرأة ضد الضغوط الاجتماعية والمجتمعية. اللغة التي تستخدمها عبدلاوي في المجموعة تتميز بالإيجاز المكثف، وتنتزع من الواقع صورا دقيقة وجميلة، لكنها دائما مشبعة بالحزن. اللغة الواقعية تنقل لنا الحياة اليومية بتفاصيلها القاسية، لكنها تحتوي على أبعاد شعرية من خلال التعبيرات المجازية التي تضفي عمقا على النصوص. في احتضار، وصفت الكاتبة الجدران المحيطة بالبطلة: "الجدران الباردة تحيط بها من كل ناحية، كأنها تشاركها الصمت." هنا، يصبح المكان جزءا لا يتجزأ من عزلتها النفسية، كما يعكس الجو المحيط بها الشعور بالوحدة الشديدة. وفي أين طفولتي؟، يتم تصوير معاناة الطفل بعبارة بسيطة لكنها مشبعة بالعاطفة: "هدّه التعب يا كبدي!" هذه العبارة لا تنقل فقط معاناة الطفل الذي يعمل لإعالة أسرته، بل تلخص الفجوة الكبيرة بين ما يتوقع من الأطفال وما يفرض عليهم من أعباء الحياة. تعتبر الرموز من العناصر الأساسية التي تبني بها عبدلاوي عوالمها السردية. في الشمعة، تُستخدم الشمعة كرمز للحياة التي تتناقص ببطء، بينما السكة الحديدية في أشلاء على السكة تمثل المسارات القسرية التي لا خيار للإنسان سوى السير فيها. تستخدم أيضا النافذة في قصص مثل الحديقة كرمز للأمل المحبوس، حيث تجد الشخصية نفسها عاجزة عن التطلع إلى ما وراءها. الرمزية هنا تُضفي على النصوص بعدا فلسفيا عميقا يجعلها قابلة للتأويل من مختلف الزوايا. الشخصيات في هذه المجموعة ليست مجرد تجسيد للمعاناة الفردية، بل هي تمثل حالات إنسانية أوسع. الشخصيات المهمشة، مثل المشرد في أشلاء على السكة، تُمثل الإنسان المنبوذ الذي يعاني من صعوبة التواصل مع المجتمع، بينما الشخصيات النسائية، مثل البطلة في التائهة، تجسد صراع المرأة ضد الأوضاع الاجتماعية التي تحاصرها. الأطفال، مثل الطفل في أين طفولتي؟، يعبرون عن فقدان البراءة بسبب أعباء الحياة المبكرة التي تحملها عليهم الظروف الاجتماعية. كل شخصية تعد تمثيلا لأزمة اجتماعية ونفسية معقدة، وتتحول هذه المعاناة إلى تجارب كونية. الزمان في المجموعة يتسم بالطابع الدائري والمعلق، حيث يعيش الأبطال في حالة من العجز عن تغيير الماضي أو التطلع إلى المستقبل. الزمن يتداخل مع الحاضر ليخلق حالة من الجمود، كما في الشمعة، حيث يعبر النص عن قسوة الزمن الذي يمضي دون أن يغير شيء في حياة الشخصية: "الزمن يمضي ولكن لا شيء يتغير." المكان، في المقابل، غالبا ما يكون مغلقا وخانقا. في احتضار، يتحول المكان إلى امتداد لصراع الشخصية الداخلية، مما يضيف بعدا نفسيا على النص، ليصبح المكان وكأنه يعكس حالتها النفسية. الأسلوب السردي في المجموعة يعتمد على بناء درامي مكثف، إذ تبدأ القصص بلحظات عادية ولكن سرعان ما تتصاعد نحو ذروة درامية تكشف مأساة الشخصيات. الكاتبة تستخدم أسلوب السرد المفتوح الذي يترك نهايات القصص دون حلول نهائية، مما يعكس العبثية التي تعيشها الشخصيات ويجعل القارئ يشاركهم هذا التوتر والقلق. من خلال تطبيق التحليل النفسي والاجتماعي على المجموعة، نجد أن الشخصيات تتصارع مع مشاعر الذنب والقلق الداخلي. في احتضار، تعيش البطلة حالة من التوتر النفسي بسبب إحساسها بالفشل تجاه من تحبهم. في الوقت نفسه، يظهر الخوف من الفقد والوحدة كعوامل مشتركة بين معظم الشخصيات، مما يعكس حالة العزلة الوجودية التي تهيمن على النصوص. اجتماعيا، تقدم المجموعة نقدا حادا للفجوة الطبقية، حيث يتجلى التفاوت بين الأفراد والسلطة في قصص مثل الاستشارة.
المجموعة القصصية " ليل وأسوار " هي عمل أدبي يتجاوز السرد التقليدي ليغوص في عمق النفس البشرية وينسج مشاعر وأفكارا معقدة ومتشابكة. هذه المجموعة ليست مجرد سرد لحكايات، بل هي دعوة للتأمل في المعاناة الإنسانية، الاغتراب الاجتماعي، والفقد الوجودي. من خلال الأسلوب الأدبي المميز والرمزية العميقة، تقدم ليلى عبدلاوي عملا يلزم القارئ بالتفكير في معاني الحياة والموت، الهوية والمصير. " ليل وأسوار" هي مجموعة قصصية تمثل نقطة تحول في الأدب المعاصر، فتح أمامنا أبوابا جديدة لفهم التجربة الإنسانية، مما يجعلها جديرة بالتحليل والاحتفاء العميق.
-----
تعليقات
إرسال تعليق