فإنها لا تعمى الأبصار / قصة قصيرة / الكاتبة المغربية الشابة هاجر وعديش.
فإنها لا تعمى الأبصار
قصة قصيرة
الكاتبة المغربية الشابة
هاجر وعديش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دنت الشمس من المغيب، واصطبغت السماء بلون الشفق، وبعد أن أسدل الليل عباءته المظلمة وهدأت الرجل وسكنت حركة الناس خرج رجل من منزله مهرولاً بخطى متسارعة، حاملاً فانوساً بين يديه، باحثاً عن مولدة النساء لتقوم بتوليد زوجته التي جاءها المخاض لأول مرة.
طرق باب المولدة، فعلمت بقدومه، وضعت إزارها، حملت مستلزماتها وخرجت مسرعة عنده... عاد وعادت معه "لالة فاطمة"... امرأة عجوز في عقدها الستين، أرملة مات عنها بعلها، بدت على ملامحها تجاعيد الكبر، معروفة بطيبوبتها، تولد كل نساء القرية دون مقابل، لا تأبه للماديات، همها الوحيد تقديم المساعدة فقط، ولجا للمنزل معاً، طلبت منه إحضار إناء ممتلئ بالماء، لبى النداء وهب مسرعاً... كان التوتر بادياً على محياه، سيصبح أباً بعد لحظات قليلة، ولأول مرة في حياته... التمستْ منه البقاء خارج الغرفة التي تشغلها هي وزوجته وبعض الجارات اللواتي هببن مسرعات لتقديم المساعدة، فهن أمهات سبق أن عشن هاته اللحظة.
بقي "أحمد" أمام الغرفة، وهو رجل في عقده الرابع، أسود الشعر، ذو ملامح جميلة، عيناه بنيتان، متوسط الطول، وهو يمشي جيئة وذهاباً، وصوت صرخات زوجته يحز في قلبه، لو استطاع فعل شيء لها لفعل، لكن ليس باليد حيلة، سوى لهجه بالدعاء لها لتسهيل ولادتها... بعد تفاقم الألم، سمع ازدياد صرخات زوجته، فألم الولادة لا يضاهيه ألم على الإطلاق، فالجنة لم توضع تحت أقدام الأمهات عبثاً، بل لحكمة لا يعلمها سوى اللّٰه.
بعد لحظات، سمع صوتاً آخر، جعله يتوقف فجأة عن المشي، كان صوت صرخات، لكن ليست صرخات زوجته هاته المرة، بل الصرخات الأولى لملاك بحجم الكف... رفع "أحمد" بصره ليجد "لالة فاطمة" تمده بجسد صغير ملفوف بقماط أبيض... ازدادت دقات نبضات قلبه، وأشرقت أسارير وجهه التي امتزجت بمشاعره لتدمع مقلتاه بالسرور، أقبل عليها ثم أمسك بفلذة كبده بين يديه، ليرى ملاكاً جميلاً يستنشق الهواء لأول مرة، يصرخ لأول مرة... تخبره القابلة أنها مولودة أنثى، فرح بها وقبلها، ثم أذن في أذنها وحنكها بتمرة... بقي يتأمل ملامحها الدقيقة والأنيقة... عيناها مغمضتان، أنفها دقيق، فمها أحمر صغير للغاية، تملك غمازتين رائعتين ما زاداها إلا بهاء ونوراً، سمّاها "مريم"، وأعاذها بالله من الشيطان الرجيم، ودعا اللٌٰه أن ينبتها منبتاً حسناً... فرحت الأم بالاسم، فهي طالما أكثرت من قراءة سورة مريم طوال تسعة شهور. الماضية، وأحبت السيدة مريم، ونظراً لتعلقها بها قرر زوجها أن يهديها اسم مريم كما أهدته هي أول طفلة لهما أنارت حياتهما.
ظلت الأم لا تفارق طفلتها، تحملها طوال اليوم، وتحرص على الاعتناء بها، ولطالما انتظرت اليوم الذي ستخطو فيه أول خطوة، وتنبس بكلمة ماما، وتلعب رفقة صديقاتها بالدمى التي سيشترونها لها هدية في أعياد ميلادها، كانت متلهفة لعيش جميع اللحظات مع فلذة كبدها.
مرت الأسابيع الأولى بعد الولادة بسرعة فائقة، ونما حجم الصغيرة، لكن ما كان يُقلق زوجة أحمد أن طفلتهما لا تبتسم رغم سماعها صوت أمها أو أبيها، لطالما حركت بأصبعها فوق عيني مريم باتجاه اليمين والشمال، لكن عينيها لم تتفاعلا مع الأصبع أبداً، لم تكتف بهذه التجربة فقط، بل حملت ألواناً جذابة كالأحمر ومررته أمام ناظريها، فلم تستجب الحدقتان.
لم تخبر زوجها بشكوكها، لأنها لم ترد أن تُقلقه هو الآخر، رغم ذلك لم تفقد الأمل أبداً... عند ذهاب أحمد للعمل، وضعت الطفلة أمامها، وأحضرت مصباحاً يدوياً أنارته وأخذت تسلط ضوءه الساطع قبالة عيني الصغيرة، لكن، وتبّاً للكن هاته، لم تتفاعلا أيضاً مع الضوء الساطع... حزنت الأم لحال طفلتها، وتبادرت إلى ذهنها آلاف الأسئلة: كيف ستخبر زوجها قرة عينها بما اكتشفته لتوها، كيف له أن يتقبل هاته الحقيقة، كيف لهما أن يتعايشا مع طفلتهما، كيف لهما أن يخبرا أقاربهما وجيرانهما بالأمر، فنحن مع الأسف ننشغل دائماً بما سيقوله الآخرون.
ذات مساء، عاد "أحمد" من العمل منهكاً، وما إن رأى زوجته تحمل ابنتهما بين ذراعيها حتى نسي عياءه، وبات البِشْر يجول في محياه، ثم راح يداعبها وهو يطبع على خدها قبلات ويستنشق رائحتها الملائكية... الأطفال يملكون رائحة مميزة عن باقي البشر كأنها رائحة من الجنة... بقيت الأم تقابله بابتسامة، وهي تحمد ربها في أعماقها على نعمة الأمومة والأبوة التي أنعم اللّٰه بها عليهما... أسندت يدها اليمنى إلى خدها، وأخذت تتنهد وتتأملهما وهي صامتة... وقع بصره على زوجته المهمومة، فخلقت لديه فضولاً مباغتاً بسبب تعابير وجهها... بعد إلحاحه الطويل، أفرغت أخيراً ما بجعبتها... انقبضت أساريره، وبقي مغروساً في مكانه كأنه وتد.
حملا الطفلة وأسرعا بها إلى طبيب مختص، وضع على عينيه نظارتين طبيتين وظل يتفرس فيها بنظرة فاحصة، ثم أضاء مصباحه اليدوي الصغير ووجهه نوره إلى عينيها، أجرى لها عدة فحوصات، ليطلب منهما أخيراً الجلوس والاستماع إليه بانتباه وحرص شديدين، فحص ساعته بتوتر وزفر زفرة حارة، ثم قال:
ــــ أعرف أن ما سأقوله صعب للغاية، صعب علي في إخباركما به، أما أنتما فصعب عليكما تقبله، لكن هاته مشيئة الخالق... سكت هنيهة ليرى أربع حدقات معلقات في شفتيه، لقد استولى على والدي الطفلة الخوف واعتراهما الرعب... ازدرد ريقه بصعوبة هاته المرة، وتابع بنبرة طبيب ذي خبرة طويلة:
ــــ طفلتكما لا تقوى على رؤية أي شيء... حتى النور.
يا حزناه، لقد حدث ما كانا يخشيانه، رغم درايتهما بالأمر، إلا أنهما صُعقا من الخبر، فألجمت ألسنتهما، التمعت عينا الأم واغرورقتا بدموع، لتفر عبرات ساخنة من بين جفونها كنهر جارٍ، فهي تشعر بالأسى والحزن على رضيعتها... تمسح دمعاتها من وجنتيها، لكن تسقط دمعاتها رغما عنها ولا تملك إلا أن تدعو لها بالشفاء... لم يبكِ الأب، لكن قلبه كان يقطر دماً... ساد صمت رهيب في الغرفة، لينبس الطبيب بكلمات بطيئة:
ـــ عليكما التحلي بالصبر والقوة، فامتلاككما طفلةً تعاني من إعاقة بصرية قد يكون تجربة صعبة، لذلك أنتما مطالبان باستجماع قوتكما معاً وتعليمها الأشياء ووصفها لها، فهي فاقدة حاسة البصر، ولن تستطيع النجاح إلا بمساعدتكما لها، عن طريق تشجيعها ودعمها والأخذ بيدها.
مرت الأيام عسيرة على "أحمد" وزوجته "آمنة"؛ وهي سيدة في عقدها الثالث، ربة بيت تهتم بشؤون بيتها وزوجها، وهما يحاولان التأقلم مع وضع طفلتهما، فهي تنمو بسرعة، لكنها لا ترى إلا العدم، خطت خطواتها الأولى بمساعدة والديها وهما يصفقان لها، كما ركضت أولى خطواتها، لكنها اصطدمت مع الحائط وسقطت تبكي، لطالما تلقت لطمات على وجهها، لكونها لم تحفظ بعد أركان البيت، نطقت أولى كلماتها؛ "ماما وبابا" فغمرتهما السعادة العارمة، أنستهما حزنهما... قررا ترتيب أثاث المنزل، وطفلتهما تكبر أمام ناظريهما، بطريقة تلائم كفيفة، وهذا يتطلب اتخاذ احتياطات وتدابير احترازية لحمايتها؛ خصصا لها غرفة للنوم بسيطة قليلة الأثاث، تحتوي على سرير وخزانة للملابس فقط، ليوفرا لها فضاء إضافياً للحركة والتنقل واللعب، كما تجنبا اقتناء الألعاب ذات الأصوات الصاخبة، أبعدا الزجاج وكل الأشياء القابلة للكسر بعيداً عن متناول يديها الصغيرتين، وغطيا منافذ الكهرباء لكي لا تضع أصابعها بداخلها، أو أن تضع أشياء أخرى داخلها كالمسامير أو أي موصل كهربائي، لم ينسيا إزالة الأثاث ذا الزوايا الحادة لئلا يصيبها بالأذى، أبعدا الأدوات الحادة كالسكاكين والمقصات، وغيرها الكثير.
أتمت "مريم" خمس سنوات ووالداها لا يفارقانها أبداً، وبالخصوص أمها التي كانت بجانبها في جل لحظات طفولتها، وهي تشرح لها كل صغيرة وكبيرة... تمكنت من العدّ، وأصبحت تتحدث وتعبر عما تقوم به، وتطرح العديد من الأسئلة، تمكنت أيضاً من المشي للخلف بسهولة، وتعلمت القفز على قدم واحدة والركض والتسلق كباقي الأطفال رغم الصعوبات التي واجهتها في البداية، لكن أمها لم تكل ولم تمل، بل قدمت لها كل ما في جهدها، وصفت لها شكل ولون السماء بزرقتها الخفيفة، وقرص الشمس وأشعتها ولونها الأصفر، وشكل القمر ونور ضوئه، وأشكال النجوم، ثم الغيوم البيضاء، والطيور المحلقة في السماء، وأسماء الحيوانات، وخضرة العشب والأشجار، وزرقة البحار والمحيطات والوديان، وألوان وأسماء الزهور... أخرجتها لحديقتهم الموجودة أمام بيتهم ذات مرة للاستماع لمعزوفة السماء وهي تمطر، قفزتا معاً، واستنشقتا رائحة التراب المبلل... لامست القطرات خدودها وبللت شعرها الحريري المنسدل على أكتافها... أكثر ما كان يحز في قلب أمها، حينما تسمع أنينها وهي تتمنى رؤية وجوه والديها، بكت الأم ليلتها ما شاء الله أن تبكي على حال صغيرتها، لكنها لم تستسلم أبداً وفكرت هي وزوجها في تربية حيوانات أليفة في حظيرتهم الصغيرة، لتتعايش مع كائنات جديدة، وتتناسى حزنها... اشترى الأب أغناماً وبقرة ودجاجاً وكلباً للحراسة، وأحضرت الأم قطة لتهديها لمريم، فرحت بها وألقت عليها اسما واعتبرتها بمثابة صديقة لها، كما ألقت أسماء على باقي الحيوانات الأخرى... صنع لها والدها عصا من الخشب لتدلها على الطريق من البيت إلى الحظيرة، ومع المداومة والتكرار حفظت عدد الخطوات، فأصبحت تلج وتخرج بسهولة، كان أملها الوحيد في سماعها لصوت الحيوانات الأليفة، كونت صداقات حميمية معهم؛ حضنت الخراف وقبلت صغار قطتها ومسحت على فرو الكلب، وجرت خلف الكتاكيت الصغار، لم تكن تراهم بعينيها، لكنها تحسهم بقلبها، لطالما اعتمدت على حاستي السمع واللمس للتعرف على الأشياء من خلال أصواتها وأشكالها وكذا ملمسها وحجمها. أهداها أحد أقربائها في عيد ميلادها السابع أدوات لتعلم الكتابة اليدوية عن طريقة "برايل"؛ بواسطة قلم خشبي بأسفله سن معدني مدبب ومسطرة برايل هي لوحة بها خليات للكتابة بداخلها، وكل خلية هي عبارة عن مستطيل صغير يحتوي على عمودين بهما ستة أماكن للنقط، ولكل نقطة من النقط الست رقم حسب مكان تواجدها في الخلية، فالعمود الأيسر به نقط 1 و2 و3 بالترتيب من الأعلى إلى الأسفل، أما العمود الأيمن فيحتوي على النقط 4 و5 و6 بالترتيب أيضاً... حرص على اعتمادها أصبع السبابة باليد اليسرى للمساعدة على الكتابة، بعد أن شرح لها طريقة الاستعمال؛ وذلك بتثبيت الورقة على المسطرة، ثم الضغط بالقلم في الفراغات لتشكيل ثقوب بالورقة وهي نقط أحرف برايل... شرح لها أن الكتابة تكون من اليمين إلى اليسار، وعند الانتهاء تقلب الورقة لتكون القراءة من اليسار إلى اليمين تماشياً مع نسق قراءة برايل بجميع لغات العالم.
في سن السابعة عشرة صارت تنكب على الرسم بالفرشاة، وكأنها فنانة محترفة، حفظت الألوان عن طريق روائحها، فاللون الأبيض له رائحة الطباشير، والأسود ذو رائحة هباب المدفأة، والأصفر يميل لرائحة الليمون... أحبت الرسم، وشعرت بالانتماء له، وظفت طاقاتها الكامنة بالتدريب والمداومة، لترسم تخيلاتها وتحولها للوحات فنية... إعاقتها فجرت فيها نوعاً من العزم والإصرار دفعاها نحو أهداف الكمال.
سجلتها أمها بمسابقة دون علمها، لتعلن النتائج... والمفاجأة أن الفائزة بالمرتبة الأولى كانت... رسامةً عمياء.
هاجر وعديش
المغرب
تعليقات
إرسال تعليق