امتدادات أنشطة فعالية تقديم وتوقيع ديوان "في الشارع المقابل لجرحنا القديم" للشاعرة تورية لغريب / ورقة الناقد محمد علوط.

امتدادات أنشطة فعالية تقديم وتوقيع ديوان 
"في الشارع المقابل لجرحنا القديم" 
للشاعرة تورية لغريب.
الفعالية الثقافية المنظمة من طرف مؤسسة مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء
بشراكة مع مجلة الرؤى العربية للإبداع والنقد، 
يوم السبت 27 أبريل 2024، بقاعة عبد الهادي بوطالب
———————————
ورقة الناقد محمد علوط
——————————— 
[ تشكلات النسق المفارق في ديوان "في الشارع المقابل لجرحنا القديم" لتورية لغريب ]
——————————— 
تكتب ثورية الغريب القصيدة مثل [صرخة وجع] حيث الألم الإنساني في لغة ديوانها "في الشارع المقابل لجرحنا القديم" (1) يجسد في آن واحد التّقاطعات القدرية لمحنة المصير الاجتماعي في بعده الايديولوجي ولمكابدات المصير الوجودي في بعده الأنطولوجي.
ذلك ما يجعلنا إزاء الرمزية الشعرية للغة تستبطن دالّين شعرين أساسيين: الدّال المرتهن ب "حلم التغيير" والدّال المرتهن ب "نشدان الاكتمال"، وكلاهما يتمفصلان استعارياً لتشخيص دلالات المنع والحرمان، الهزيمة والسقوط والانكسار، الفقد والغياب والفراغ، حيث العالم / الواقع / الوجود / الذّات تنبني سيميائياً في مدلولاتها على [نسق مفارق] للتقابل الضدي بين العدم والوجود. (2)
ثمة مداخل كثيرة لاستجلاء مظاهر اشتغال هذا النّسق المفارق، لذا سندعو القارئ يرافقنا للوقوف على مناصصين شعريين:
ـ الأول ورد في الصفحة 45 من الديوان: (3)
{ أنا ابنة الضّوء
وهذا الأفول
لا يناسبني ... }.
ـ والثاني ورد في الصفحة 33 من الديوان:
{ نيرودا
يا من علمتني غواية الحب
حتى صار العشاق سمّا بين براثن الليلكـ ...
ها أنا أتفقد جرحي كل مساء وبأصابع مرتعشة أنظف دم القصيد }.
عدد المناصصات الشعرية في الديوان عشرون مناصص، وهو نفس عدد القصائد.
تشكيلياً، تخضع المناصصات والقصائد لمنطق التوازي الذي هو أحد مكونات الإيقاع البصري للديوان، وهو إيقاع بصري تشكيلي مشحون بحمولة دلالية لتشغيل (رمزية المرآة).
ذلك أن البناء العام للديوان ينهض على لعبة الانعكاس المرآوي بين المناصصات والقصائد، وهكذا تنسج الشاعرة تشييداً تخييلياً مخاتلاً وخلاسياً بين المناصص والقصيدة الموازية، تاركة لنا مساحة تأويل رحبة لاستبطان الحدود الميتا شعرية الظاهرة والخفية بينهما. (4)
يقيم المناصص الأول (ص45) تقابلاً ضدياً بين الضوء والعتمة، بين الولادة كرمز إخصابي والأفول الدال على الموت.
يقيم الأنا الشعري في الما بين البرزخي بين الحياة الموت، مثل صرخة وجع وصدى جرح.
رمزية الجرح في الشعر الحديث (غرباً وشرقاً) مترامية الضفاف، ولا حدود لسجلاتها الرمزية.
تجنح الشاعرة إلى استرفاد رمزية الجرح المقدس، دم الجرح / القصيدة كاستنارة وجودية عند نيرودا في المناصص (ص33)، ومن جديد وفي عتمة مساء العالم وحلكة ليل الكائن يشرق ضوء يبدد الظلام، ضوء راعش، ضوء الكلمة الشعرية تمنح النور والحياة، تنظف الدم الفاسد، المتصفد، المسفوح.
هكذا، ومن خلال الاستعارة النارية (الظلام - الضوء) تنهض صورة النّسق الشّعري المفارق المتحكم في متخيل الديوان دالا على هذا التضاد الرمزي بين العدم والوجود. (5)
وكما تمتح الشاعرة ترميزات المتخيل الشعري الغربي، فإنها أيضا وبنفس الفاعلية ترجع إلى ذاكرتها الشعرية المنفتحة على خرائط الشعر العربي الحديث، خصوصاً منه الذي اشتغل على الاستعارة المائية ورؤى الرمزية الإخصابية الميلادية لتشخيص دراما الصراع الإنساني في واقع من السقوط يسعى للخلاص من موته وانهياراته وأفوله العدميّ.
نستقي مشهد تعالق الاستعارة المائية بالنسق الشعري المفارق من الأمثلة التي نختارها هذه المرة من القصائد كما هو الحال في الاستدلال التالي:
{ رقصة الحصاد
النجوم في عينيها تومض
لمعانها يشق سواد المكان
ضوء الهلال في يدها يجز سيقان السنابل اليابسة
كسمفونية سائلة في هذا الحصاد الليلي
جُدْجُدٌ يداري وحدته على رأس الفدّان الحليق
فستانها مروحية تدور حولها في غنج
يستدرج النسائم لمضاجعة الأرض
الألحان تسعف الليل
أن يشرب نبيذها
المنجل يردد الكورال الليلي
الدوم قبعة تتوج السنابل ملكة ل ل ح ق ل
والحصاد ة آلهة ل ل ر ق ص }.
(ص13)
موسم الحصاد في المخيال الاجتماعي كما في المخيال الأدبي هو دائماً بتعبير عن زمن طقسي (Un temps rituel)، طقس شعائري لتجميد أساطير الخصب ورمزية الميلاد.
تنطوي القصيدة على نسيج متشابك من الصور الشعرية للاحتفال بميلاد (زمن جديد / زمن آخر)، تظهر وتتوارى الاستعارة المائية (مضمرة ومعلنة في آن واحد) في تلافيف لغة "(إيروتيكية)" حيث زمن القطف والجني هو المعادل الرمزي أثر فيض الاستعارة المائية الإخصابية التي تشبهها الشاعرة ب [سمفونية سائلة في هذا الحصاد الليلي].
تترادف النطفة المائية بمناخ شعري إغوائي أنثوي، فتكتسب الصور الشعرية دلالة [الرحم المنجب].
وهذه القصيدة تتجاوب تناصيّاً مع لحظتين شعريتين من الديوان:
الأولى:
{ في حياة أخرى
كنتُ قطعة من هاته الأرض
وكنتَ حصّادي
لكنها لم تمطر أبدا ... }.
(ص11)
والثانية:
{ كل الألوان كاذبة
لذلك أرتدي عباءة بلون الماء
أشبه كل الأشياء
ولا ظلال تشبهني }.
(ص57)
يخضع الاستدلال الشعري الأول، كما الثاني، والثالث إلى وعي أسير [النسق المفارق]، فالرمزية التأويلية لهذه الإسنادات الشعرية ترسم صورة واقع انشطاريّ يضع الأنا الشعري في اللحظة الفارقة بين تجاذبات نزوع حلم مستقبلي يتعارض طباقياً، وبشكل تراجيديّ مع استحالة تحقق نشدان الاكتمال.
لا تكتب ثورية الغريب الشعر كعقيدة لذلك، فهي لا تقدم لنا يقينيات مطلقة، قصيدتها أشبه ببقعة دم على جسد المكان، أشبه بصرخة تعبر البرزخ اللامتعين بين العدم والوجود، صرخة كينونة جريحة يتلاشى صداها في خرائطيات الفقدان والغياب والعتمة والسراب. (6)
تنتسب التجربة الشعرية لديوان "في الشارع المقابل لجرحنا القديم" إلى نمط قصيدة النثر ذات الأسلوبية الغنائية، وهي غنائية متحررة القيود تقوم على مراوحة مستديمة بين الأنا الشعري مفرداً والأنا الجمعي الذي هو أكثر هيمنة على المنحى الأسلوبيّ للجملة الشعرية وللبناء النّصي.
لكي يأخذ الإيقاع نبرته الدّالة على مستوى الإنشاد الشعري، فإن الشاعرة تلجأ الى [بلاغة التناسب]. (7)، وفي بلاغة التناسب خاصة على المستوى التركيبي للجملة الشعرية تنشط الفاعلية الإيقاعية لـ (التكرار) باعتباره مكوناً إيقاعياً ينأى عن كونه فضاء حشو أو لزوماً بديعياً زخرفياً، بل يذهب نحو تقوية الإيقاع الدلالي في تناسبات قيمه التركيبية.
في هذا السياق يمكن أن نتوقف عند قصيدتين: الأولى بعنوان "حكايتي مع الليل" ص 21 التي مقاطعها تعتمد تكرار الجملة الافتتاحية [استيقظ أيها الليل] (ست مرات) وتختتم بنفس الجملة التي تتحول إلى لازمة (استيقط / استيقظ).
في قصيدة [طقس شعري] يتكرر الترادف الإيقاعي لتكرار الجملة الخبرية (أكتب الشعر) (أربع مرات)، وهذا التكرار ينجب ترادفاً تناسبياً لتوالي الجمل التفسيرية على الصوغ التالي: [أحفظ قلبي / ليصير الماضي / لأن عبق الحرف / لأحتفظ بالنسخة الأولى / لأورثكم زمردة دمي الثائرة / لتكتبوا على شاهدة قبري].
يمكننا الاستشهاد بنصوص أخرى من الديوان للكشف عن مستويات التناسب الإيقاعي: تكراراً وترادفاً وتوازياً وتقابلاً وتناظراً، وهو الذي يمنح لغة الديوان أسلوبيته الإنشادية ذات الطابع الغنائي.
لا تسرف الشاعرة في المجاز الشعري الذي يجعل الصور الشعرية ذات كثافة تجريدية، فبعيداً عن شعرية الغموض وبلاغة الالتباس تسبك الشاعرة نسيج التلوين البلاغي للصورة الشعرية وفق لغة ذات طابع تشخيصي ميّالة إلى التصوير الحسي الذي يتفاعل مع التّلقي الحواسي و ترميزات تذويت الطبيعة وجعلها وسيطاً مرآوياً لاستبطان الفكرة والشعور الوجدان والأثر النفسي، وفي غور هذا النزاع تندس الكثير من الصور الشعرية المجتلبة من سجلين تعبيرين وهما: استدعاء الذاكرة الشعرية كفاعلية تناصية، واستدعاء العناصر السيرية استدعاء شذرياً وومضياً.
 ———————————
= الهوامش:
1/ ثورية الغريب "في الشراع المقابل لجرحنا القديم"، الراصد الوطني للنشر والقراءة، طنجة. 2023.
2/ يراجع بصدد مفهوم [النسق المفارق] كتاب قاسم البرسيم: "المفارقة في الشعر بين الغرب والعرب"، إفريقيا الشرق. الدار البيضاء 2020 – ص 129 وما بعدها حول "مفهوم المفارقة ومظاهر توظيفها عند العرب".
3/ المناصص (أو النص الموازي): مفهوم من نحت جيرار جنيت في كتابيه:
- Seuils , édition du seuil , 1987 .
- Palimpsestes , édition du seuil , 1982
في الكتاب الأول بصيغة (Péritexte )، وفي الكتاب الثاني بصيغة (Paratexte)
يراجع أيضاً في نفس السياق كتابه:
-Introduction à l’architexte , édition du seuil , 1979 .
4/ العلاقة بين المناصص والنص المركزي هي دائماً علاقة ميتانصية يدرجها جيرارجنيت في إطار عبريات النصوص. ص 7 من (Palimpsestes).
5/ في الديوان هناك حضور مهيمن للاستعارة النارية قياسياً على الحضور النسبي للاستعارة المائية، لكنهما يتوحدان في تشييد نفس المعنى الواحد.
6/ يتوحد في معنى (الفقدان) المعنى الذي يحيل على الإخفاق الإيديولوجي، والمعنى الذي أنطولوجيا يرتبط بالدلالة على استحالة الذات المتحققة الكينونة.
7/ في كل كتاب محمد مفتاح تشديد على رصد مقولة وظاهرة التناسب. نحيل هنا إلى كتابـــه: [رؤيا التماثل]، المركز الثقافي العربي، 2005. ص 171 وما بعدها، حول خصائص التناسب اللحني في الملحون: [التناظر — التوازي — التشاكل].
محمد علوط
المغرب
 
 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في رواية "عِقد المانوليا" للكاتبة المغربية نعيمة السي أعراب بقلم الناقد عز الدين الماعزي

"العزيف" / نص مسرحي من فصل واحد / الكاتب والمخرج العراقي منير راضي / النص الذهبي الفائز في مسابقة الرؤى المسرحية 1 / السلسلة الثانية 2024 / في إبداع النص المسرحي من الفصل الواحد

{ سيدتان عالمتان بسري } قصة قصيرة / الأديبة الروائية والقاصة السودانية الأستاذة مروة أسامة.