[ قراءة انطباعية في رواية "قواعد العشق الأربعون" ] الناقد الأردني د. كايد الركيبات


 

[ قراءة انطباعية في رواية "قواعد العشق الأربعون" ]
الناقد الأردني
 
رواية قواعد العشق الأربعون (رواية عن جلال الدين الرومي)، كتبتها الكاتبة التركية إليف شافاق، وترجمها خالد الجبيلي. صدرت الطبعة العربية الأولى عام 2012 عن دار طوى للثقافة والنشر والإعلام في لندن، وتقع في 512 صفحة من القطع المتوسط.
إذا لم تكن قادراً على تخطي عتبة المخاوف النفسية، والموروثات العقائدية والاجتماعية، والقيم والمبادئ الأخلاقية التي نشأت عليها، في سبيل التحول من فرد اجتماعي مقيد في سجلات الحياة البشرية كعدد من أعداد سكان هذا الكوكب، إلى فرد منغمس في روح الحياة، لاجتياز مراحل الحب مرحلة تلو أخرى وصولاً إلى مرحلة العشق، فإن رواية "الكفر الحلو" ليست لك.
رواية قواعد العشق الأربعون، رباعية عشق صوفي جمعت الخطيب المفوه وعالم قونية وفقيهها جلال الدين الرومي، بالعارف الصوفي الجوال شمس الدين التبريزي، بين عامي 1252 و1260. كما جمعت عام 2008 بين إيلا، المرأة الأمريكية التي هجرت زوجها وأطفالها، ورجل اسكتلندي اسمه كريغ ريتشاردسون، الذي أسلم وتصوف عام 1977، وغير اسمه ليصبح "عزيز". انتهت محطة حياته في مدينة قونية التركية، نفس المدينة التي قتل فيها شمس الدين التبريزي.
تحكي الرواية قصة الانقلاب الكبير في حياة جلال الدين الرومي، بعد تعرفه على شمس الدين التبريزي. قدمت الكاتبة قواعد العشق التي طرحتها في الرواية على لسان شمس الدين التبريزي، لتظهره أنه الرجل العارف بما وراء قدرة الفهم البشري. ولم تكتفِ بسرد القواعد، بل أجرت على لسانه عبارات رديفة لتلك القواعد، تمهيداً لصياغتها. من أمثلتها: "إن المبادئ والقيود الدينية مهمة، لكنها يجب ألا تتحول إلى محرّمات. بهذا الفهم أجرع الخمر التي تعطيني إياها اليوم، مؤمناً من كل قلبي بأنه توجد رجاحة عقل ورزانة بعد ثمالة الحبّ"، التي جاءت توطئة للقاعدة الثانية والثلاثين: "يجب ألا يحول شيء بين نفسك وبين الله؛ لا أئمة، ولا قساوسة، ولا أحبار، ولا أي وصي آخر على الزعامة الأخلاقية أو الدينية، ولا السادة الروحيون، ولا حتى إيمانك. آمن بقيمك ومبادئك، لكن لا تفرضها على الآخرين، وإذا كنت تحطم قلوب الآخرين، فمهما كانت العقيدة الدينية التي تعتنقها، فهي ليست عقيدة جيدة" (ص: 356).
بعض التوطئات كانت من نوع الإخبار القصصي، جاء على لسان التبريزي حتى يكون مستوى الخطاب متوافقاً مع قدرة المخاطب، فيذكر القصة ليعطي للمستمع جوهر الرسالة التي يقصدها. لتُعزز الكاتبة فكرة القدرات الخارقة للتبريزي، في كل مرحلة من مراحل العرض الدرامي في سياق النص الروائي، فَيُعجب القارئ بشخصيته، وتزداد وتيرة اهتمامه وتفاعله مع النص الروائي. من أمثلتها قصة رجلين وجدا فتاة على ضفة النهر بحاجة إلى المساعدة: "كان رجلان يسافران من بلدة إلى أخرى، ووصلا إلى جدول ماء فاض من الأمطار الغزيرة. وعندما أوشكا على عبور الجدول، لاحظا امرأة شابة جميلة تقف وحيدة وتحتاج إلى مساعدة. وعلى الفور توجه إليها أحد الرجلين، وحملها بين ذراعيه، واجتاز بها الجدول، ثم وضعها على الضفة الأخرى، ولوح لها مودعاً، ثم تابع الرجلان رحلتهما. وخلال ما تبقى من الرحلة، لبث المسافر الثاني صامتاً وعابساً، لا يرد على أسئلة صديقه. وبعد مرور ساعات من التجهم، لم يعد بمقدوره البقاء صامتاً، فقال: لماذا لمست تلك المرأة؟ كان من الممكن أن تغويك! إذ يحرم على الرجل ملامسة امرأة هكذا. فرد الرجل الأول بهدوء: يا صديقي، لقد حملت تلك المرأة ووضعتها على ضفة الجدول الأخرى وتركتها هناك؛ أما أنت فلا تزال تحملها منذ ذلك الحين" (ص: 309).
برّرت الكاتبة انصياع الرومي وطاعته للتبريزي بقولها على لسان الرومي: "لقد فعل شمس كل ما فعله كي أصل إلى درجة الكمال، لكن أهالي البلدة لم يفهموا ذلك على الإطلاق... فقد شرع أبواب بيتنا لمومس، وجعلها تشاركنا مائدتنا، وطلب مني الذهاب إلى الحانة وشجعني على الاختلاط بالسكارى.... وفي البداية أبعدني عن المعجبين بي، ثم عزلني عن النخبة الحاكمة، وجعلني أتواصل مع عامة الشعب... وبسبب إيمانه بأنه يجب تحطيم جميع الأصنام التي تقف حائلاً بين العبد والله، بما في ذلك الشهرة والثروة والمقام، بل حتى الدين، فكّني شمس من جميع القيود التي كانت تقيدني بالحياة... وشيئاً فشيئاً، حطم شمس سمعتي، وبفضله تعلمت قيمة الجنون، وذقت طعم الوحدة والعجز والافتراء والعزلة، وأخيراً الأسى" (ص: 417-418).
أما في ثنائية عزيز وإيلا، فقد انتهج عزيز السلوك الصوفي نتيجة تأثره بالبيئة الصوفية في بلاد المغرب العربي، التي انخرط فيها لتحقيق هدف مادي بحت، تمثل باتخاذها نقطة عبور لمخالفة قانون الحظر الذي تفرضه الجهات الرسمية في بلاد الحرمين على دخول الأجانب غير المسلمين للأماكن المقدسة. لكن التجربة الصوفية أثرت فيه تأثيراً كبيراً، فتخلى عن هذا الهدف، وأخلص للطريقة الصوفية التي اتبعها. عبّرت الكاتبة على لسان عزيز في متن الرواية عن رمزية حروف كلمة "صوفي" الأربعة، قائلة: "بعد أن فقدت المرأة التي كنت أحبها، طرأ تغيّر كبير على شكلي، فلم أعد فتى ولم أعد رجلاً بالغاً، بل أضحيت حيواناً حبيساً. وأنا أطلق على هذه المرحلة من حياتي الحرف ((صاد)) في كلمة صوفي" (ص: 315). "أما الصوفية، فمن بإمكانه أن يعرف أن ما كنت أعتبره وسيلة لتحقيق غايتي، أصبح غاية في حد ذاته؟ وأنا أطلق على هذا الجزء من حياتي لقائي بالحرف ((و)) في كلمة صوفي" (ص: 334). "كنت حيث كنت أريد أن أكون، فكل ما كنت أحتاج إليه هو البقاء والنظر إلى داخلي. وأنا أطلق على هذا الجزء الجديد من حياتي لقائي بالحرف ((ف))، في كلمة صوفي" (ص: 341). "الروحانية والحياة والأسرة والفناء والإيمان والحب. وجد نفسه يفكر مجدداً بمعانيها ولم يعد يرغب في الموت. أطلق على هذه المرحلة الجديدة والنهائية من حياته اسم لقائه بالحرف ((ي)) من كلمة صوفي، وقال إنه وجد هذه المرحلة أشدّ المراحل السابقة صعوبة، لأنها جاءت في وقت اعتقد فيه أنه تغلب على معظم، إن لم يكن كل، صراعاته الداخلية، وفي وقت خيّل فيه إليه أنه بلغ مرحلة النضوج الروحي" (ص: 465).
في حين كانت حياة الرتابة، وعدم تحمّل الزوج مسؤولياته الأخلاقية تجاه زوجته، الدافع وراء توطد علاقة إيلا بعزيز، وهجرها لمنزلها وتخليها عن زوجها وأبنائها. علاقة عشق تشكلت للخروج من دائرة الخوف على المستقبل، وتجاوز عقدة تحمل المسؤولية الاجتماعية المقيدة للسلوكيات الفردية بحكم العقيدة أو الخلق أو العادة. لهذا جمعت الكاتبة عزيز وإيلا في أحد فنادق مدينة بوسطن الأمريكية، وخلقت مشهداً درامياً وصفته قائلة: "مد عزيز يده وأزال الدبوس الذي يمسك شعرها في شكل كعكة، فانفلت مفترشاً كتفيها. ثمّ قادها برفق نحو السرير. وببطء، وبرقة، راح يحرك راحتي يديه في دوائر متواصلة ومتتابعة، من قدميها حتى كاحليها، ومن جبينها حتى بطنها، ولم تتوقف شفتاه عن الهمس بكلمات بدت لإيلا مثل شيفرة قديمة سرية. فجأة فهمت ما يفعله. فقد كان يبتهل ويداه تجوسان كل بقعة من جسمها، وظلت عيناه مغمضتين، وشفتاه تدمدمان بصلوات من أجلها. كانت تلك أعظم تجربة روحية خبرتها في حياتها، وعلى الرغم من أنها كانت لا تزال ترتدي ثيابها، وهو كذلك، وعلى الرغم من أنه لم يكن بينهما أي شيء جسدي، فقد غمرتها أشد المشاعر جنسية في حياتها على الإطلاق" (ص: 458). بعد هذا اللقاء قررت إيلا أن ترافق عزيز ليطوفا العالم، قالت الكاتبة على لسان إيلا: "فهمت إيلا أنه إذا كان هناك شيء في نظر المجتمع أسوأ من أن تهجر امرأة زوجها إلى رجل آخر، فهو أن تهجر امرأة مستقبلها من أجل الحاضر" (ص: 494). تُظهر إيلا أن الحب يمكن أن يكون محركاً قوياً للتغيير، وأن البحث عن الذات الحقيقية قد يدفع المرء إلى اتخاذ قرارات جريئة ومخالفة للتوقعات الاجتماعية.
قواعد العشق تؤسس لحياة فاضلة تخرج عن العادة والتقليد والرتابة، لتسمو بمعتنقها إلى فضاء فسيح يتسع للتآخي والمحبة والسلام. قواعد وظفتها الكاتبة لتضفي صفة التسامح والتقدير على المنهج الذي استقرت عليه إيلا وعزيز واعتباره النموذج العملي الخالص في التجربة الصوفية التي يمكن قبولها في المجتمع. قد تكون قواعد العشق الأربعون مغرية للفرد في ضبط سلوكه الأخلاقي والاجتماعي، لكنها لا تلتزم بالمرجعية الدينية التي تصطدم ببعض الميول الإلحادية التي تضمنتها.
قُدّمت القواعد بغلاف أدبي فلسفي آخاذ، لكنها تحمل في طياتها انفلاتات لا تخدم المجتمع الإسلامي، بل يقف منها موقفاً متشدداً، أنتجت الكاتبة منها في باطن الرواية، رواية ثانية مرادفة لـ"قواعد العشق الأربعون"، وهي رواية "الكفر الحلو".
يمكن القول إن شافاق استخدمت الرواية كمنصة لتقديم رؤية فلسفية شخصية حول الصوفية، تجاوزت في بعض جوانبها التفسير التقليدي للدين، لتقدم قراءة فلسفية حداثية للصوفية تسعى إلى تجاوز القراءات التقليدية المتشددة. فالقواعد التي قدمتها، وإن كانت مستوحاة من التراث الصوفي، إلا أنها تظهر في الوقت نفسه تأثيرات فلسفات غربية معاصرة. فالشخصيات، وخاصة إيلا وعزيز، تجسدان الصراع بين الرغبات الفردية والقيم المجتمعية، وبين الروحانية والمادية. وبذلك، تحولت الرواية إلى منصة للتفكير في قضايا وجودية عميقة، مثل معنى الحب، والحرية، والبحث عن الذات. وهذا التوجه الفلسفي يثير جدلاً حول مدى التزام الرواية بالمرجعية الصوفية التقليدية.
من القواعد التي وردت في الرواية: "إن السعي وراء الحب يغيرنا، فما من أحد يسعى وراء الحب إلا وينضج أثناء رحلته، فما أن تبدأ رحلة البحث عن الحب، حتى تبدأ تتغير من الداخل والخارج" (ص: 129).
"إذا أراد المرء أن يغير الطريقة التي يعامله فيها الناس، فيجب أن يغير أولاً الطريقة التي يعامل فيها نفسه. وإذا لم يتعلم كيف يحب نفسه، حباً كاملاً صادقاً، فلا توجد وسيلة يمكنه فيها أن يحب. لكنه عندما يبلغ تلك المرحلة، سيشكر كل شوكة يلقيها عليه الآخرون. فهذا يدل على أن الورود ستنهمر عليه قريباً" (ص: 201).
"في هذا العالم، ليست الأشياء المتشابهة أو المنتظمة، بل المتناقضات الصارخة هي ما يجعلنا نتقدم خطوة إلى الأمام. ففي داخل كل منا توجد جميع المتناقضات في الكون، لذلك يجب على المؤمن أن يلتقي بالكافر القابع في داخله، وعلى الشخص الكافر أن يتعرف على المؤمن الصامت في داخله. وإلى أن نصل إلى اليوم الذي يبلغ فيه المرء مرحلة الكمال، مرحلة الإنسان المثالي، فإن الإيمان ليس إلا عملية تدريجية ويستلزم وجود نظيره الكفر" (ص: 444).
"ليس من المتأخر مطلقاً أن تسأل نفسك، هل أنا مستعد لتغيير الحياة التي أحياها؟ هل أنا مستعد لتغيير نفسي من الداخل؟ وحتى ولو كان قد تبقى من حياتك يوم واحد يشبه اليوم الذي سبقه، ففي كل لحظة ومع كل نفس جديد، يجب على المرء أن يتجدد ويتجدد ثانية. ولا توجد إلا وسيلة واحدة حتى يولد المرء في حياة جديدة وهي أن يموت قبل الموت" (ص: 482).
"لا قيمة للحياة من دون عشق. لا تسأل نفسك ما نوع العشق الذي تريده، روحي أم مادي، إلهي أم دنيوي، غربي أم شرقي .. فالانقسامات لا تؤدي إلا إلى مزيد من الانقسامات. ليس للعشق تسميات ولا علامات ولا تعاريف. إنه كما هو نقي وبسيط. العشق ماء الحياة، والعشيق هو روح من نار! يصبح الكون مختلفاً عندما تعشق النار الماء" (ص: 500).
د. كايد الركيبات
الأردن
 
 
  

Peut être une image de texte 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في رواية "عِقد المانوليا" للكاتبة المغربية نعيمة السي أعراب بقلم الناقد عز الدين الماعزي

"العزيف" / نص مسرحي من فصل واحد / الكاتب والمخرج العراقي منير راضي / النص الذهبي الفائز في مسابقة الرؤى المسرحية 1 / السلسلة الثانية 2024 / في إبداع النص المسرحي من الفصل الواحد

{ سيدتان عالمتان بسري } قصة قصيرة / الأديبة الروائية والقاصة السودانية الأستاذة مروة أسامة.