قراءة نقدية في قصيدة نثرية / قصيدة "مارقٌ بار" للشاعرة السورية روضة الدخيل / القراءة النقدية للناقد المغربي علي اليدري العلمي.
القصيدة
مارقٌ بار
روضة الدخيل
سوريا
دعني
أهندسُ تضاريس الفوضى
أقصُّ يباس الغصون
أقطّعُ الأسلاكَ الشّائكة
على حدود الوهم
وألوذُ بعينيك
ليزغرد الصّداح
دعني
أُمرّغُ وجهي بطهر ترابك
أكسو الحروف ببُرد التّيه
أُطلقُ عنان الجنون
لأنظم فيك قصيدًا
بحبر الرّماح
دعني
أتسلّقُ سنديانة قامتك
أصيرُ ريشة الأشيب شعرك
لتولد أغاني الطين
وحكايا التّكوين
ولوحاتُ حلم الذابلين
في الأزقّة المنسيّة
بلون النّاصع الياسمين
دعني
أعلنُ أنّني عبدُك
وبمسّ لعنة عشقك مصاب
فلا تلقني في مهاوي الغياب
فأتلعثمُ
كلّما طأطأ هامتي الانكسار
دعني
أعبرُ دروب المفردات
شاردًا
كطيورٍ مطرودة من غابةٍ
استأسدت فيها الذّئاب
كي لا تنفيني في المسوّدة
وتلدغني بعقرب الإقصاء
فيتوقّفُ النّبضُ
وتبقى أنت
وعمقُ الجراح
دعني
أتمدّد على عتباتك
يا كلّ عالمي
لتفيضك جداولُ أوردتي
فتروي قفرك
وتتربّعُ في عرينك
مكلّلًا بالكبرياء
دعني
وأنا كُرمى لك
سأتلاشى كفجرٍ
هام مُتيّمًا
بنجمة الصّباح
روضة الدّخيل
سوريا
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
القراءة النقدية
علي اليدري العلمي
المغرب
دعيني أقول لك يا روضة: باسم الله، وما شاء الله على هذا الإبهار منك، احتفاءً بلغة الضاد، وصديحًا بأجمل آيات القريض، لا أعتقد أن كل هذا الأمر هو نتاج عمل واجتهاد فقط، بل ثمة تلويح بفطرة فن ولدت عليها الشاعرة، وعرفت منها تعهدًا وصقلًا موازاة مع كبرها، فما أبهى التجلي منها هنا في قصيد بعنوان "مارق بار".
لذلك، فالوقوف عند عند محسنات البديع في القصيدة، لا يعدو أن يكون نافلة كلام... دربة عالية من الشاعرة في التعامل مع اللغة، انتقاء بارع للفظ، بماهية وظيفية، إيحاء بالثراء الكامن، استعماله بتعدد صيغ الاشتقاق، ترصيفه في تعبير سلس، للالقاط أو رسم لوحات بديعة. ويترتب عن ذلك إيقاع موسيقي يتناغم مع سيكولوجية متأرجحة بين عمق الشجن، ولهيب التوق للقبض على هدف يلوح من هالة سراب. ويكتمل البهاء، عندما نقف على بعض مسافة من القصيدة، نتأمل فيها معمارًا بديعًا تنتظم فيه الطوابق بتناغم فاتن، يستوقفك عند كل طابق منبه بمنطوق "دعني"، إيذانا ببلوغ طابق جديد.
"مارق بار"، عنوان القصيدة عابئ بما هو مفترض فيه من محمول الإثارة، والإدهاش، وثراء التوقع، وإيقاظ فضول الاستكشاف لدى القارئ.
فمن هو يا تراه، هذا المارق البار؟ كيفه يجمع بين الشيء ونقيضه، وما تجليات المروق والبر فيه؟ هذه بعض من الأسئلة التي تراودنا من خلال العنوان، فنستعجل الخطى قراءة في القصيدة، تلمسًا للجواب، عسانا نلوي على شيء من ذلك.
كم هو لبيب هذا الصادح، وهو يتودد للحظة تأسيسية لمسعاه، تتيح له ترتيب أموره، لتكون مُناهُ على قدر من الشرعية، لحظة يهندس خلالها الفوضى المستشرية، يقص شائب الغصون، يقطع الأسلاك الشائكة على حدود الوهم، ويلوذ بعيون موطن خلاص، تبيح للصادح زغرودة فرح، شغوفًا وجدتني، ومعي كل القراء لا ريب، أتهيأ هكذا، وأصوب سهمي في نفس الاتجاه... أينكر أحدنا أن الفرح منتهى بغيته، وأن عيونًا حاضنة بصدق وطنه الأثير!؟
وينظر الصادح إلى مخاطبه، بقامة سنديانة، يتودد لو يتسلقها، وصولًا إلى أعلى عرش فيها، لاستعادة لحظة الفطرة، ولادةً، وتكوينًا، وحلمًا بلون الياسمين الناصع، فشكرًا لك أيها الصادح، وقد وجهت أحلامنا وفق روعة المشتهى.
ألهذا القدر من التيتم بنظيره، يبيح الصادح له نفسه عبدًا!؟ لكن لا عجب، فالانفطار هكذا، إنما هو نتيجة حتمية لمس جنون عشق، وإنما ملتمسه، ألا يطعنه ضنينه بسهم الهجر، ويلقي به في مساحة الغياب، فيختل خطابه في لحظة انكسار.
أبعد نقطة في مسافة العشق، وصول درجة التذلل، وها صاحبنا يمرغ وجهه في التراب، ملامسه طاهرًا، مستسلمًا لجنون عشقه، ينظم في خله قصيدة بحبر الرماح، نذرًا إياها للخلود، فكيف لا يتداعى المعشوق أمام هذه الطقوس.
شاردًا، يتدفق الصادح قصيدًا، ينتقي لصياغتها لفظًا زبرجديًّا، كطيور هاربة من بطش ذئاب الغاب، كي تكون القصيدة جديرة بالاحتضان، لا تنتهي إلى سلة الإهمال، فيتوقف العزف بلحن الحياة، لفائدة طيف الضنين، والجراح، فيا خجله، من لا يفغر لذي القصيدة كل مسامه، كيت تتسرب إلى عمق الأحشاء، وتجري مع دفق الدم في الشرايين!؟
وليس الصادح، ببشاعة جشع، يتزلف إلى ضنينه، ليلتهم ما به من دسامة مكنوز، بل يتوق أن يتمدد على أعتاب يرى فيها رحب عالمه، فيرويه بدفق شريانه، ليستحيل القفر خصيبًا، ويكلل صاحبه بتاج الكبرياء في عرينه.
وبنبرة مستريح من تعب مطاردة مناه، يختزل الصادح هويته لمخاطبه، بوتقة كرم تتلاشى كفجر هائم، تيتمًا بنجمة الصباح، بحلم يختزن معنى الحياة.
أتكفيرًا عن مروقه، يتدفق الصادح هكذا!؟ أم تكريسًا لحقيقة بر ساكن، وتبديدًا لسوء ظن عارض، يفعل هذا!؟ وفي كل حالات الجواب، تظل الوصفة كما قدمتها الشاعرة روضة الدخيل في غاية الإبهار.
سيتساءل القارئ، من غير شك، كيف تتحدث الشاعرة بلسان عاشق ولهان، وكان حريًّا بها أن تصدح بمشاعرها، ومطامحها، فتنتصب قطبًا، إليه يستطاب السعي؟
تعليقات
إرسال تعليق