مقال نقدي / سؤال القارئ... أو الممسوسون وأدب الفانتازيا. أكثر من قراءة، وأكثر من سؤال وقضية... في ظاهرة معرض الرباط الدولي للكتاب موسم 2024 / بقلم الأستاذة حياة البستاتي / المغرب
] مقال نقدي [
} سؤال القارئ... أو الممسوسون وأدب الفانتازيا.
أكثر من قراءة، وأكثر من سؤال وقضية... في ظاهرة معرض الرباط الدولي للكتاب موسم 2024 {
بقلم الأستاذة حياة البستاتي / المغرب.
* استهلال:
قد يموت الكاتب وتحيا الكتابة، ثم تُحييه حياةً أقوى حيوية وأعمق أثراً حينما تصادف قارئاً لا يشبه القراء في طقوس قراءته، ولكن القارئ إذا مات، أو تحولت مراميه من القراءة، أو مُسخ مسخاً خفيفاً أو مخيفاً، فإن الكتابة تموت بالفعل، والأدب يُمسخ وحشاً مفترساً كئيباً، وبين عطب الأدب وأعطاب الخطابات الأخرى أكثر من هُوّة وألف شَقٍّ وشق... واحتمال قراءة تَنْبُت من الشقوق وتحضر بطقس السرد، وليس سرد النهارات المتدثر بالشمس كسرد الليالي المنتشي بالسواد والقمر.
* واقعة:
أثارت واقعة حج الجماهير الغفيرة إلى معرض الكتاب الدولي بالرباط في هذا الموسم 2024 م، من أجل كاتِب وتوقيع كِتاب، ردود فعل متباينة من المواكبين للحركة الثقافية في بلادنا، ومن العوام، ولم تكن واقعة الازدحام والإغماءات، أو مسألة الردود عليها هي ما سلك بي إلى هذه الورقة، رغم كونها ظاهرة فريدة تفرض نفسها حقاً على كل منشغل بالأسئلة الحارقة للكتابة والفكر والثقافة، خصوصاً وأن الأفواج التي حجَّت بشغف منقطع النظير، وبعزم لا يضاهيه مثيل، أغلبها إن لم نقل جميعها كانت فئات طلابية، وقد قصدت إلى المعرض قصداً من أجل أديب مغمور لا يعرفه المواكبون للحركة الأدبية الجديدة المهتمون بالنقد، والمتابعون للإبداع الأدبي بجدية وعلو همة، إقبال على كاتب في زمن الملهيات الذكية، وزمن التصقت به سمة العزوف عن القراءة، حتى صار زمننا وهذا النفور سمة واحدة من سمات الأمة، لا أحد يشكك فيها مثقال ذرة، حدث لافت استوقفني، لكني أرجأت الخوض فيه، ففي البال انشغالات فكرية أخرى كحصى في مضجع المضطجع، حتى حضر إلي تلميذ يتأبط كراسة خضراء، وجدته يمدها إلي: "لقد كتبت مجموعة من القصص، أرجو أن تقرئيها وتتفضلين بتنقيحها، والإدلاء برأيك فيما أكتب".
تسلمتها منه، وشفتاي تفتران عن ابتسامة مشجعة، وشرعت في تصفح بعض الصفحات منها،ثم وقفت عند بعض نصوصه القصيرة ومضيت أقرؤها، خيال خصيب، وشخصيات وأحداث غريبة، واختلاف وجِدَّة لم أعهدها، فأبديت اهتمامي بها، ونوهت بصنيعه، ورغم بعض الأخطاء هنا وهناك، إلا أنها كتابة سردية خيالية أثنيت عليها، قلت: "ليست من الكتابات المعتادة المألوفة، وعندي أن لها رائحة كرائحة مغامرات السندباد في رحلاته السبع وأساطير الرسوم المتحركة ذات الخيال الفريد"، حينئذ، أخبرني أنه يكتب كما يكتب "أسامة المسلم"... استوقفني تعليقه لم يكن يدري أي شيء عما وقع بمعرض الرباط، تحدث على عواهنه، أسرعت بي بديهتي إلى الحدث من جديد، تساءلت:
" ما الذي يكتبه هذا الشاب السعودي "المغوار"، يجعله معروفاً في أوساط تلامذتنا وطلابنا ويضحى قدوة لهم، بينما هو مغمور نكرة عندنا نحن الذين نحسب على القراءة والثقافة والملتزمين بالمتابعة؟ بل هو مغمور حتى في الأوساط المثقفة في بلده، تزاحمت في رأسي أسئلة كثيرة بعضها عملاق وبعضها صغير، ولكنها كلها كثيرة وصاخبة.
- من هو القاريء الجديد؟
- ما خصائص الكتابة التي يقبل عليها؟
- هل هناك كتابة أدبية جديدة لم ننتبه بعد إليها؟
- هل القضية التي تثيرها الواقعة سؤال قارئ أم سؤال كتابة؟
- هل فعلاً شبابنا فجأة صار قارئاً؟
وعدت إلى البيت وداخلي كقاعة مؤتمر وقد احتد فيها النقاش، وعلت الأصوات من هنا وهناك فصارت أشبه بسوق شعبي صاخب... فكرت في ما سمعته من تنكيلات تنتقص من نباهة كاتبنا العربي، والتي طالت حذقه ويقظته إزاء القاريء:
- أتكون من ثمة مشروعة؟
- أتراه مقصراً تجاه قارئه حقاً؟
- هل فعلاً مرد قلة القراء إلى التقليد في الأسلوب واجترار نفس التقنيات، وكأن القراء طبقة واحدة، وهم مختلفوا الأمزجة والطبائع الأذواق؟
- أهو العجز عن سد حاجياتهم الفنية والنفسية والذهنية ما ينفرهم من الإقبال؟
- أهو الجهل بهم، وعدم انشغال الكاتب بانشغالاتهم ما يصنع هذا الصدع العظيم في علاقته بهم؟
- ماذا يعني أن تكتب لجيل ما بعد التسعينات بأدوات غير كلاسيكية؟
بدا لي هذا التساؤل من صاحبه، سؤالاً مستفزاً... ألسنا نقرأ الشعر الجاهلي فتأخذنا نشوة وبهجة؟ أليس "المتنبي" عند أكثرنا مفضل على شعراء من زمننا، وهو من العصر العباسي؟، أليس الأدب مختلفاً عن السياسة في مسألة الارتباط بفترة زمنية محددة بحيثياتها، ولولا ذلك، لما كنا بحاجة إلى قراءة أدب "دوستويفسكي" و "تشيخوف" و "تولستوي" وز"فيكتور هيجو" و "شيكسبير"، ولا بحاجة إلى كتب الأمالي والكامل والأغاني والمقامات والليالي... ألم نقرأ نحن جيل الثمانينات والسبعينات أدباً عن فترات تاريخية لم نعشها، وأحسسنا باحتراق أصحابها بأسئلة المرحلة فاحترقنا... لم نعش عهد الاستعمار ولا عهد المقاومة في الواقع، ولكننا عشناه في الكتابات، وفي أذهاننا وأرواحنا.
هل الكاتب ــــــــــ من ثمة ـــــــــ هو المسؤول عن ظاهرة العزوف عن القراءة؟
لم تكن عودتي إلى البيت ككل مرة، ولم تكن الطريق التي سلكتها طريقي المعتادة التي ألفتها، كانت الأسئلة طريقي، انتبهت إلى أني أمام البيت، لكني لم أنهها بعد، وأنا أدير المفتاح في باب الإقامة، تساءلت:
"كيف نقرأ حدث الازدحام الذي كان سابقة تاريخية في معرض الكتاب بالمغرب، وربما في العالم بأسره؟".
صحيح، كثير من الكتاب يكتبون جيداً، ولكنهم غير معروفين، وربما لا يهمهم أن يكونوا كذلك لأنهم مشغولون بما هو أعمق، فالباحث الأصيل دائم الانشغال والبحث، وآخر شيء قد يفكر فيه أن يكون معروفاً، فالشهرة قد تشغله عن الفكر الذي يولد بالتدبر والهدوء والعزلة، وفي المرحلة الثانية يأتي التعريف بمشروعه، وحينئذ، لا مشكلة في أن يكون ضائع الصيت، وكثير منهم أيضاً، كتابته رديئة، ومعانيه سطحية، وأفكاره مسروقة، لكنها فئة كالنار على علم.
لم تكن بتاتاً هذه قضيتي.
* الحادثة وقضايا أخرى:
حادثة معرض الرباط الدولي، لم تكن مجرد حدث عابر يمكن تناسيه وتجاوزه، فقد أثار مجموعة من القضايا التي يتعالق فيها التربوي والثقافي بما هو فني ورقمي، ومما يثار بها: قضية التصنيفات في الأدب، لما تطالعنا من هنا وهناك كتابات تطرح مفاهيم جديدة، واصطلاحات ما أنزل العلم بها من سلطان، ف"المفهوم" مفتاح العلوم، كما يذهب "السكاكي"، وإدراك ذلك والتنبيه إليه خطوة علمية تُحسب للباحثين، وأن يصير التقسيم وسيلة منهجية فذلك دأبنا عليه في كثير من مناهجنا المتوسلة بالحجاج والاستدلال، لكن طرحه غاية تتولد به تصورات ورؤى واتجاهات تطرح حكمها سلفاً فتلك قسمة ضيزى، فتقسيم الكتابة إلى كتابة نسائية وأدب طفل، قد يجرنا إلى الحديث عن أدب للشباب وآخر للشيوخ، ولا يفوتني أدب الرجل أو الرجال في مقابل ما يسمونه الكتابة النسوية أو النسائية مع الفروق التي يجعلونها بين المنسوبين، من يدري فقد تطلع علينا في ما سيأتي من الدراسات... فهل يصح أن تكون "الكتابة الشبابية" وراء الحدث الثقافي في المعرض المغربي للكتاب؟ ، هل يمكن أن يصير تجنيساً؟ ، ما مشروعية هذه التصنيفات التي تتحول إلى مفاهيم واصطلاحات يتم تكريسها في الدراسات الحديثة؟ ، أليست في حاجة إلى وقفات نقدية طالما كان الأدب كتابة جوهرية تحتفي بالجوهر الإنساني، وقيمته ليست متوقفة على الأبنية الفنية والعناصر الجمالية على أهميتها، بل ترتهن كذلك بمنطقه الإنساني الذي لا يفرق بين أبيض وأسود ورجل وامرأة ومسلم وغيره، قيمته في قوامه وقيمه، في انشغاله بما هو جمالي، فيرقى إليه الذوق، فلا نمارس إلا فعلاً جميلاً، ولا نقترف إلا الجمال، الأدب خير وجمال وفرح بالحياة حتى حين يستوقفنا عند جرائمنا وقبحنا ويحتفي بأحزاننا، فهو يدعو قراءه إلى وقفة تدبر وتأمل وإحساس بالآخر، بهذا الإنسان الواحد في كل مكان وزمان... الأدب تلذذ بإنسانيتنا الباذخة، معنى ومبنى، تعاطي مع احتمالات الأمكنة والأزمنة وإمكانات المعنى.
* تخمين:
قد تختلف القراءات لهذا الحدث اختلافاً صارخاً، إذ هو بشرى خير عند فئة، لكنه مؤشر سلبي عند فئة ثانية، ولكننا جميعاً مع هؤلاء وأولئك نتشارك لحظة واحدة هي ردة فعلنا التي تختلط فيها الدهشة بنوع من اللذة، وشيء من الغرابة، وكثير من الرغبة في الفهم والاستيعاب... وكلنا يتجاور في داخله سؤالان: كيف؟ وماذا يعني ذلك؟
ومما لا شك فيه أننا في مستوى من القراءة للحدث خَمَّنّا أن القراءة في بلداننا العربية بخير، وأننا أمة اقرأ، وكذب من قال غير ذلك، وقد نمضي مبلغاً في تفاؤلنا البريء، فنتخيل معارضنا للكتاب منافسة لمهرجاناتهم الموازينية، فنعد الإقبال على توقيع كتاب ـــــــــ بغض النظر عن طبيعته، وموضوعه، وجنسية صاحبه وتوجهاته وفلسفته في الحياة ـــــــــ نعد ذلك كله تعديلاً للموازين... ولا تنتهي خيالاتنا إلى هذا الحد، بل نمضي نتخيل أسواقاً تنشد فيها الأشعار، ومركبات ثقافية جديدة ونشيطة حيث وليت وارتحلت، وقراء ينتشرون هنا وهناك، كل منهم يلتهي بكتابه، مطلقاً أسارير وجهه ترتع في صفحاته، لا وقت للنميمة، ولا للعراكات الصغيرة والكبيرة، لا أحد يتحرش بأحد، لا أحد يشتم أحداً، ثم نتخيل فرح الأساتذة باقتراب فترة حراسة الامتحانات، وكلهم مدرك بأن المترشح سيلتهي بورقته واختبار فكره، وقد ألف المطالعة وأَلِفَتْه، ثم يشتاق للفصل الدراسي في إجازته، حيث المنافسة على أشدها بين التلاميذ والطلبة في طرح الأفكار بلغة عربية جميلة، والحصة تمضي كلحظة استجمام سعيدة في مدينة ساحلية فاتنة...
بل سنمضي إلى أبعد من ذلك، لنتخيل عدم حاجة مريضنا إلى زيارة أكثر من طبيب لتشخيص مرضه، فكل الأطبة مهرة وبارعون، ولن نسمع في أخبارنا عن سقوط مبانينا، واعتداء على نسائنا وأطفالنا، فكل الرجال صالحون، وكل الآباء آباء، وكل الأمهات أمهات، وكل راع مؤد لأمانته بمسؤولية ووفاء... كم من الأحداث الجليلة يمكن أن تكون بالإقبال المكثف على القراءة التي تبني العقول والأمم والحضارات، وتصنع التاريخ والإنسان، إنها الكثافة اللافتة المضيئة... ابتسمت وأنا أستحضر الإغماءات، لأول مرة تكون مؤشراً إيجابياً يخدم الحدث المنقول.
الخبر من ثمة، من هذه الوجهة عنوان بارز على النجاح الثقافي في بلدنا، ودليل قاطع على أن اللغة العربية تسترد أبناءنا من جديد، لم يعد هناك داع لبكائها كما كشفت ذلك قصيدة "حافظ إبراهيم"... ثم أو لم نكن قبل أيام في معرض وجدة الواجدة، ثم نقلنا رحالنا إلى العاصمة حيث يقام معرضنا السنوي للكتاب، فهنيئاً لنا إذن هذا الميلاد الثقافي الجديد / "إقبال أبنائنا على الكتاب"، الذي سنؤرخ له بحدث معرض 2024 م.
* في رحاب المخيف:
أَأديب أم ساحر في خدمة ما يُسْتَحضَر:
مهلاً، لنتريث قليلاً حتى نلم بمعطيات أخرى قد تسير بنا وجهة معاكسة، لن ندعي أن القراءة الأولى أضغاث سذاجة، إذ يحسب لها تفاؤلها بالآتي، وحسن الظن بالأبناء وبالكتب جميعها، ولكننا في غضون لحظات وجيزة من الانتشاء والدهشة بما وقع، لا نلبث أن نفطن في مستوى أعمق من التلقي للحدث إلى أسئلة كبرى ملحاحة وقوية، عن الكتابة والكاتب والقراءة والقارئ، ومن البديهي أن يكون في طليعتها:
ماذا يكتب أسامة المسلم؟
ما الذي يقرؤه شبابنا؟
ما هذا الذي يجده طلبتنا في أدبه؟... في رواياته: "بساتين عربستان"، "وهج البنفسج"، "جحيم العابرين"، "ملحمة البحور السبعة"، "صخب الخسيف"، "الغيهب"، "الانتهازي"، "ليلة ماطرة"، وسيرته العجيبة "خوف"... وغيرها.
انطلقت إلى مكتبتي، وصلت حاسوبي بالكهرباء ثم الأنترنيت، وأدرت محرك البحث، كتبت فقط اسم الكاتب، فطالعتني أعمال كثيرة، وبطاقة تعريفية به، وسيرته، فتحت بعض نصوصه، وشرعت في قراءتها، لغة واضحة مفهومة، حوارات مقتضبة، أسلوب سلس ينساب كما ينساب الماء الصافي الذي لا يعيقه شيء في مجراه، عقدة محبكة بإحكام، وراء حبكتها عقل خبير بالنفس الإنسانية، خيال مجنون لا تحده حدود، لكن شيئاً فيها يذكرني بأفلام الرعب وسلسلة من الرسوم والألعاب الالكترونية، من تقنياته المفاجآت، كسر أفق انتظار القراء، التشويق تلو التشويق، سرد موجه لفئة عمرية تستهويها المغامرة ومهوى فؤادها الخروج عما يعتاده الناس، تمرد صريح معلن عن الواقع بلا هوادة، كتابة تمثل عالم الفنتازيا الكبير المدهش.
هكذا تشكل انطباعي الأول بعد قراءة بعض النصوص المتفرقة من بعض أعماله، لست أتذكر عناوينها، ولكني اخترتها بعناية، ناديت ابني لأحدثه عن هذا الاكتشاف، أخيراً سأغريه ليقرأ، وكثيراً ما يحدث أني أكلفه بقراءة نصوص أو مقالات قصيرة ل"مصطفى لطفي المنفلوطي" من "النظرات"، أو مواضيع متنوعة ل"جبران خليل جبران" ، الذي كنت اقتنيت جميع أعماله في فترة الدراسة الجامعية، أو بعض الفصول من روايات "أجاثا كريستي" البوليسية، ويحدث أننا نقرأ سوية نصوص سلسلة "أحمد بوكماخ "المميزة: "اقرأ"، وقد درست اللغة العربية من خلالها في مرحلة دراستي الابتدائية، أخبرته عن رواية "خوف" لأثير فضوله، وكنت بصدد تنزيلها على حاسوبي لأجل قراءتها، سجل العنوان واسم أديبنا في ورقة، ومضى إلى دراسته، ومضيت إلى قراءتها.
شيء ما يجعلك تقبل بشهية على كتابته، أثارتني كثيراً عبارته: "تذكر قبل أن تدخل"، وقد جاءت في صفحة مستقلة وحدها، بخط مضغوط مرتبك ومربك، وفي الصفحة الموالية كتبت عبارة واحدة فقط هي: "أنك لن تخرج"... كما شدني تجنيس "سيرة"، وإيماؤه أن أحداثها حقيقية، يقول في مقدمته: "ما سأذكره في الصفحات التالية من أحداث وقصص وروايات لن أطلب من أحد تصديقها، ولن أدعي أنها حقيقة حفاظاً على نفسي من سوط النقد الجاهل، وكذلك لن أقول إنها رواية من نسج خيالي كي لا أظلم جزءاً مهماً من حياتي غيرها إلى الأبد، لكن سأكتفي بالقول إنها مجرد... إسرائيليات"... التهمت الصفحات التهاماً... كانت مقدمة العمل جيدة، والمتحدث يُشعرك بصدقه، يكتب كما لو أنه يهمس في أذنك، يُدخلك إلى مغامرة تلو مغامرة، سارد يتقدمك، ولكنه في نفس الوقت لا يتركك وراءه، هكذا استشعرت... إنه أدب الفنتازيا والغرابة مرة أخرى، وبطريقة أخرى ينتصر عالم الافتراض على الواقع في هذه الكتابة... أدركت أن أبناءنا معه لم يخرجوا من العالم الأزرق أبداً... أخذني التفكير لوهلة من المقروء، هل هو اليأس والإقرار بالعجز عن تغيير الواقع البئيس ما يدفع إلى الاستعانة عليه بعالم مواز أقوى تحكما بالعقل، وأوسع احتواء للإنسان وأحلامه، وأعمق في الحضور داخل حياتنا، حتى لم يبق في الواقع منهم إلا أجسادهم المسكونة بما ليس من هنا، أم هو عدم إعداد العقل لعتاده وآلياته التي تمكنه من مواكبة ما يجري في العالم الرقمي السريع التحول، والذي تتدفق فيه الأزمنة مع الأمكنة، مختلطة بالمعلومات التي تستقى من كل المجالات، فتأتي دفعة واحدة بقوة وسرعة يعجز العقل عن مضاهاتها... أهو ما جعل العقول ترضخ وتستكين بعد أن أصابها الإجهاد من التفكير في الواقع، والتفكير في الافتراض، فاختارت أن تعيش لعبة افتراض غير مقيم؟
قرأت نصف رواية "خوف"، وتوقفت، ثم أسرعت أضغط على زر إيقاف، ووجدتني أنتقل من الانتشاء ولذة الاكتشاف إلى دائرة الخوف والتشكيك والحيرة... أيكون هذا أدباً؟ أكل هذا فانتازيا وإسرائيليات؟ ، لكنها حقائق فعلاً، بدأت أستجمع وأتذكر ما يصلني من هنا وهناك، من الفوهات الرقمية نفسها التي تقتحمنا دون أن نختار... عالم الجن... طقوس من عالمهم... الرواية "خوف"، كلما مضيت في مطالعتها كبرت دائرة خوفك، المقدمة كانت بريئة عن طفل عربي نشأ بأمريكا، ثم عاد إلى وطنه ليكتشف مظاهر التخلف والاستبداد السائدة، ويفصح عن رفضها بشدة، يكبر الطفل ويصير شاباً ذكياً مثقفاً محباً للجدل... كتابة انتقادية لكثير من السلوكات والعادات الظالمة للعقل وكرامة الإنسان، ولكن هذا الحديث لم يأخذ إلا الصفحات الأولى من السيرة، فبعدها سيشد الكاتب رحاله إلى عالم السحر وكتبه، والمردة والظلام، والجن والقرين، وأمور العوالم الأخرى التي يبدو أنه يعرف عنها وكأنه من نفس العالم، إذا لم يكن شيء فيها مما عاشه وخبره فلماذا سيجنسها بسيرة، وما الرابط بين حياته في الأقسام الأولى وبين هذه الغرائب؟
أحسست بقشعريرة وبأشياء تتسلل مع الكلمات، وليست كلمات، فأسرعت أعرض عنها، وعزمت على أن لا أُنْهِي قراءتها، هذه أول مرة أبدأ فيها كتاباً ولا أنهيه، بل وأعزم على عدم إتمامه... تعمدت إشغال بالي بأمور أخرى... تسللت إلى غرفة الصغير، وقد كان نائماً... بحثت عن العنوان الذي سجله، كان فوق مكتبه، وجدت الورقة، وفيها: "خوف / أسامة المسلم"، أخذت الورقة خلسة وبهدوء مزقتها، ورميت بها في المكان المخصص لذلك، ثم دعوت الله أن يكون غير متذكر للعنوان وصاحبه، لحسن الحظ لا يشبهني في هذه: الشغف بالكتاب وبالقراءة.
* قضايا أخرى:
قد تكون الوسائل الفنية البارعة الموظفة من طرف الأديب أفتك وسائل التدمير الممكنة، أو في أقل تقدير وسيلة تدمير ممتازة، ويضحى الخيال مشرطاً ومخدراً في يد مريض أو ماكر، فيسلب المرء ما يجعل منه ذاته، وليست المعضلة في أمر الخيال، أو في ركوبه من أجل ترك قافلة العوام الهجينة، والتمرد على السائد الموجع، والعادات الخاطئة، فليست تلك المشكلة، ولكن الخطب الجلل في عدم إيجاد البديل / البدائل، فنضطر إلى ترك الهجين إلى الأكثر هجنة، والقبيح إلى الأبشع والأخطر، والمعروف إلى المجهول، فما ننزعه عنا من لباس قد يجعلنا في عري نكون به أمام خيارين: إما البقاء عراة، منقطعين عن الجماعة ومنسلخين عن مفاهيمها جميعها الضارة والنافعة، فنتأذى من كل شيء، ونستباح استباحاً للإنس والجن، وإما نتخذ لنا لباساً آخر يجمل الهيئة، ويقي من الحر والبرد، ويواري السوأة، وهو أمر لا يكون بالمصادفة والتمني، إنما يكون بالبصيرة اليقظة، وبالوعي المستنير، وبالعقل الحاضر المتدبر، وبالاختيار المسؤول، فلا تنزع عنك شيئاً إلا وقد أعددت ما تتحصن به مما يليق بك ويلائمك، وإلا لن يكون إلا الضياع لك وجهة، ومنها وإليها تروح وتعود، وهو حجاب بينك وبين واقعك الذي تنتمي إليه، ولا تعزلك عنه إلا الأغطية التي وضعتها عليه أو عليك.
لا أنكر أني تفطنت إلى أن جانباً في "خوف" يشبه شيئاً في "الجريمة والعقاب" الروسية، فأنت تعيش مع القاتل، تشعر بما يشعر به، وهو يعد لجريمته، نوع من السأم والكآبة، ثم يبررها، بشجاعة وذكاء قذر، ويمضي لارتكابها، فتنتظر أن لا يفعل لكنه يقترفها، تضطرب معه، يتستر ويختبيء، فتنتقل الأحاسيس إليك ولست بقاتل، لكنك صاحبه بالقراءة، ومن عاشر قوماً مئات الصفحات، وثلاثة أجزاء، صار منهم، كذلك الممسوس... هذه الكتب بلا عنوان، ولا اسم، مرعبة حقاً، تجعل حبات العرق تنزل على ظهرك باردة ثم ترتجف كما بطل السيرة... أهي لغة ممسوسة؟ لا أدري، ولكنه احتمال، أليست الكتابة رزمانة احتمالات؟ ، هل هو أديب أم ساحر؟ هل هو حاذق أم جني؟ هل يكون من الجن أدباء؟ أتساءل وفي ذهني مشهد الاكتظاظ، ولكن الجمهور بات من الزومبي وليس من الطلبة، أو هي كائنات بشرية مغَيَّبة.
أكثر من قضية تطرحها ظاهرة المعرض، قضية "التقانة والقراءة" من أبعادها أيضاً، موضوع كبير له جاذبيته، تشدنا إلى المتلقي الجديد الذي صالح الفعل القرائي بشكل أو بأشكال عن طريق التقانة الحديثة، فكل الصور والفيديوهات التي تطالعنا ـــــــــ ونحن نعيش حضارة ما بعد الصورة التي تتلبسنا في كل حين ـــــــــ وفي كل لحظات اليوم تصلنا متوجة بعناوين، أو مذيلة بتعاليق تدفع المتصفح إلى قراءتها، وهو إن أعرض عن هذا واجهه ذاك، وإن لم يقرأ ذلك، قرأ هذا، و إن لم يتوقف عند تعليق، استوقفته تعاليق... فتكنولوجيا المعلومات تتأسس على بيانات تُلزم بالقراءة، وبذلك فالفعل القرائي موجود بالفعل ولا يصح إنكاره.
ثم قضية "الأدب والغرابة" و"أدب الفانتازيا" واللامعقول، أما الغرابة فهوية للأدب، والألفة لا تصنع أدباً، ولا تمايز عن الخطابات الأخرى في غياب الغريب، ولم تكن العجائبية مذهباً جديداً في الأدب، وقد اشتهر الأدب القديم بأنماط نثرية بنيت قيمتها وطالت قامتها بهذا النهج، فكتاب "الليالي" / ألف ليلة وليلة طابقت شهرته الآفاق، واستلهمت منه أفكار لمشاريع أدبية ضخمة ك"مائة عام من العزلة" ل"غابراييل كارسيا ماركيز"، لكن غرابة الكتابة الجديدة جديدة أيضاً، لأنها تأخذ من الواقع حقائقه ثم تضيف إليها ما يخرجها عن المألوف ويبعدها عنه مسافات، أيكون ذلك تحول من أدب الليالي "الكلاسيكي"، إلى أدب النهارات، لنستعيض عن ألف ليلة وليلة بألف نهار ونهار ،طالما صارت نهاراتنا مليئة بالعجب والخوف، خوف من وباء جديد، من حرب أخيرة، من الخسف والخسوف، من كائنات فضائية شريرة، من انقطاع الأنترنيت، من نهاية العالم، من الزلازل والبراكين، من غضب الله، من نفس النقطة الوجودية القديمة، نقطة الموت، أليست نهاراتنا أعتم من ليالينا وأغرب، فأحداث الليالي تسترها العتمات، وأحداث النهار تفضحها الشمس... أنكون بذلك أمام أحد رواد هذا المذهب وقد سلك إليه بالسخرية والرعب ليكشف نهاراتنا الشمطاء في واقعنا العربي؟
و"قضية أثر الكلمة "، لا يمكن أن تغفل، فوضوحها لا يخفى على ناظر... فللكلمة كل هذا التأثير وأكثر، ونحن لم نكن إلا من وراء كلمة واحدة ، هي كلمة "كن"، ومهما ارتفعت قامة العلوم الحقة وكبرت دهشتنا بالتقنيات الدقيقة، وإمكانات علوم الرياضيات والفيزياء والهندسة، فإن قيمة الأدب لا تضمر ولا تضمحل، ولا منافسة، ولا مقابلة أو مقاطعة بينه وبينها، فهي وحدة متكاملة لجوانب حياتنا الإنسانية، وما نحتاجه في إقامتنا في الأرض وفي أجسادنا، وكيف نتوسل الأدب لخلق أجيال المستقبلات الرائدة؟ سؤال راهني ويحتاج أكثر من تناول.
* وتعليمنا قضيتنا" الأولى والأخيرة:
والمتسلل بين الجموع الغفيرة من تلاميذنا وطلبتنا، يستبد به القلق أيما استبداد، على مصير الأمة، فالقضايا المصيرية لأمتنا العربية والإسلامية، وقضايا الإنسان الكونية، هي آخر ما يمكن أن يشغل عقول شبابنا، ماعدا قلة منهم تعد من حزب الغرباء، وتمثل نشازاً و مصدر اشمئزاز للأغلبية الساحقة التي انتقلت من المرحلة العاطفية والواقعية والحب والسياسة والشهوة، إلى كتب السحر والشعوذة، وتتبع رموزهم بشغف وجدية منقطعة النظير، هذا كله إلى جانب طلب العلم، والشواهد العليا، أتذكر حديث طالبة كانت في زيارتي، في سنتها الثانية من التعليم الجامعي، وقد سألتها عن رفقتها وانشغالاتهم، وعن جدية الطلبة وأحوالهم، فذكرت لي من جملة ما ذكرت أنهم منشغلون بمواضيع غريبة مرتبطة بالسحر والبحث عن كتبه، و... اشمأززت، كانت الفتاة كحاطب الليل، محبة للجدل والتفاصيل غير المهمة، فلم أعر اهتماماً لمقولها، وعندي أنه لم تكن لتخوض في ذلك لولا انشغالها بهذه الدروب الضيقة المعتمة، ونسيت الموضوع إلى أن ذكرنيه حدث المعرض.
سجلت ملاحظاتي على الظاهرة، وأغلقت ملف القضايا، ضغطت على زر إيقاف الحاسوب، ثم فصلته عن الكهرباء، وفي بالي أن الظاهرة ما هي إلا إتمام لعبة الكترونية بدأت في مواقع التواصل الاجتماعي، وانتقلت إلى واقع ثقافي مشهود، عالم الرعب الذي يدغدغ أبناءنا في ألعاب الهاتف، يتحول إلى شكل نصوص خوف وإثارة وطلاسم... لم يخرج طالبنا من اللعبة إلى القراءة، بل وظف القراءة في اللعب... أما الأديب "أسامة المسلم" فاتجاه في الكتابة والنظر له ما له، وعليه ما عليه، يحتاج إلى وقفة عين حصيفة فاحصة محصنة.
فهل الحدث الفارق علامة التردي في وجه من وجوهه، أم بوابة أخرى كانت مغلقة ففتحناها من جديد؟
هل هي الفانتازيا وحدها وهذا اللعب اللغوي البريء، أم هو عالم الجن الذي يستحضر بكل دهاليزه المرعبة المعتمة بقصد وترصد؟
أقراءٌ هم أم مجرد ممسوسين؟
أم ليسوا إلا محترفين للعبة رقمية بوسيط اللغة؟
كل معرض والفانتازيا بخير، واللغة العربية فوق وبعد وقبل ذلك بألف خير، وشيطان الرواية في أروقة المعرض يوقع انتصاراته الباهرة على شيطان الشعر، وما شيطان شعرنا بالمنهزم.
معرض الرباط الدولي للكتاب يبقى نبراساً مضيئاً في المشهد الثقافي المغربي الحديث، استطاع أن يبلغ الكتاب مكانة رفيعة في المجتمع المغربي، ويكون علامة فارقة مشعة بسلسلة التكريمات التي اعترفت بجهود رواد الكتابة الأدبية والنقدية في وطننا، وبمجموع التوقيعات والندوات التي أقيمت في أروقته في مواضيع متنوعة، استفاد منها جمهور الكتاب وضيوف الرباط وأبناؤها، وأشرق به المغرب الثقافي على العالم العربي والإفريقي، فابتهج المثقف الزائر أيما ابتهاج وهو يعيش ربيع الثقافة وعهدها المزهر، ولكن حدث المعرض يبقى ظاهرة دالة لها أكثر من معنى وأكثر من بعد.
أ. حياة البستاتي
المغرب
تعليقات
إرسال تعليق