الشعري والجمالي في نقد الواقع في ديوان "في الشارع المقابل لجرحنا القديم" للشاعرة تورية لغريب / قراءة أولية / الناقد مصطفى امزارى / المغرب.

 

] امتدادات أنشطة فعالية تقديم وتوقيع ديوان "في الشارع المقابل لجرحنا القديم" للشاعرة تورية لغريب المنظم من طرف 

مؤسسة مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء بشراكة مع مجلة الرؤى العربية للإبداع والنقد، 

يوم السبت 27 أبريل 2024، 

بقاعة عبد الهادي بوطالب[    

——————

} الشعري والجمالي في نقد الواقع في ديوان "في الشارع المقابل لجرحنا القديم"

للشاعرة تورية لغريب / قراءة أولية  {

الناقد مصطفى امزارى

Mustapha Mzara

——————

تخوض الشاعرة تورية لغريب تجربة شعرية متميزة، انطلاقاً من كتاباتها الشعرية الرصينة والمتأنيّة، ولعلي لا أبالغ إذا قلت إنها من الأصوات الشعرية المغربية والعربية الراسخة في الشعر بالفعل.

انطلاقاً من الديوان "في الشارع المقابل لجرحنا القديم" الذي خضت فيه ومعه رحلة قرائية متعبة وممتعة في آنٍ... متعبة لأن ـــــ وهذا موقفي النقدي من دراسة الشعر ـــــ قراءة نقدية متكاملة في بعض الأعمال الشعرية الراسخة في الشعر، إذ يصعب أن يكون التناول النقدي الدقيق للمتن الشعري كله، على اعتبار أن قصيدة واحدة قد تثير فيك من الأسئلة والحفر والفضول الشيء الكثير قد يتجاوز التخطيط النقدي للعمل برمته، لذلك أفضل في مثل هذه الدواوين الاشتغال على كل قصيدة على حدة كما حدث معي في التعامل مع دامي عمر، أو سعدية بلكارح، أو مصطفى ملح، أو فدوى الزياني، أو حسنة أولهاشمي رحمها الله...

عند العتبة الأولى، العنوان، نكون أمام جملة شعرية اسمية غير مكتملة، وهي خبر لمبتدأ محذوف "في الشارع المقابل لجرحنا القديم"، لكنها تفتح أفق انتظارنا انطلاقاً من الدال اللغوي "جرحنا القديم" المؤشر على درامية محتملة، لكن ونحن نقبض على أصل العنوان، وهو جملة شعرية أولى في قصيدة "قبلة فارة من ساحة البارود" ص17

وهو النص الثالث، تتوضح الرؤية وتكتمل الجملة ويتحدد المبتدأ (نزيف) لنصبح أمام نزيف لا يخاف الموت في الشارع المقابل لجرحنا القديم، وينسجم العنوان مع المتن الشعري برمته...

في العنوان تحيل كلمة (الشارع) على المكان بكل امتداداته وشخوصه، وكلمة (القديم) صفة تبين طبيعة هذا المكان وما تختزنه من تاريخ وذكريات... والشارع في الغالب يقابله مكان آخر، لكن الشاعرة تجرنا إلى انزياح جميل لتجعل الشارع مقابلاً للجرح، لكنه ليس جرحاً ذاتياً، بل جاء بصيغة الجمع "جرحنا" لنكون أمام أنسنة للشارع وتشييء للجرح وكـأننا أمام وجهين لعملة واحدة.

وتحضنك اللغة أو تحتضنك، تعدّك لاستقبال الدرامي باشتغال جمالي ذكي على اللغة التي تعتبر أحد أقوى مؤشرات التميز الشعري عند الشاعرة تورية لغريب، التي راهنت هنا على النقد الاجتماعي للواقع، والذي كان بارزاً في أغلب نصوص الديوان، لذلك تدعونا وبإصرار ليستيقظ الليل، ليس لاعتباره زمناً لإلغاء المعاناة بنوم مؤقت وأحلام زائفة، بل تريده أن يصحو لأن الواقع ضالع وضليع في إعادة إنتاج المعاناة، وقد صورته بشكل لافت وهي تقول:

"استيقظ

لتعيد تدوير الألم لأمل جارف

يسقي ثقوب القلوب..."  ص 22

إنها تعيش من أجل المهمشين، صنيعة واقع مختل:

"وأنا أنسج الأناشيد

أكنس ذاكرة الوجع

من رؤوس الفقراء"

إننا بلغة الشاعرة نعيش حلماً مكسوراً، كما سمت إحدى قصائدها. ص51

وعبر أسئلة حارقة تدين الشاعرة هذا الواقع / الظلام:

"ما الذي ينقصنا

لنعبر هذا الظلام؟

أغيمات

لم تصل لسن البلوغ بعد؟

أ عويل الذئاب يصم آذان التعب؟"

لا يمكن أن يصدر هذا النقد إلا عن شاعرة ثائرة... تقول في سياق آخر:

"أكتب الشعر

لأورثكم زمرة دمي الثائرة " ص 10

"ليست حروبا

تستطيع أنثى ثائرة

أن تحدث كل هذا الخراب" ص 15

وهذه الثورة إن كانت تتوسل بالشعر أسلوباً في الحياة، فإنها استدعت بمفهوم الاستدعاء معجماً يدل على الثورة: (كل أسلحتي ـــــ البارود ـــــ زنجير دبابة ـــــ الحرب ـــــ الخراب الزوابع...)، إنها تعلن عن ثورتها بمنطوق واضح وبنبوءة الأنبياء:

"لا تصدقوا

أن الأرض تتسع للجميع

كانت رغبة ميتة

مات شيء غيفارا...

وأورثنا الوهم..."

وتقول:

"ألجم أغنيات الحنين

أستبدلها

بأناشيد الثورة

وأصغي لضجيج المارة

حين أكتب الوطن وعينيك

وشماً واحدا

على ذراع الزمن" ص76

وتردف:

"ماذا لو

أعدنا تشكيل هاته الأرض؟

ألا تمتلئ شقوق الروح

بنبوءة الحب؟" ص 43

إن نقد الشاعرة لم يكن مبنياً على شعور عابر، بل صادر عن انتماء إلى الوطني والقومي والكوني... تقول عن الوطن:

"أراقص حظي المتعب

على إيقاع التانغو

وأشرب نخب الهزائم

مع قضايا وطني الخاسرة" ص75

وعن العرب تقول:

"في بلاد العرب

لا يسأل الرجال عن الحب

الجميلات هناك يتزوجن وينجبن

ولا تلمع أعينهن" ص53

وتقول بنغمة كونية إنسانية:

"أرجوك استيقظ

ففي الكون حيارى

وحزن موشوم في المقل" ص21

إن الاشتغال الذكي للشاعرة على نصوصها جعلها تبدع في الإمساك بتلابيب اللغة بروعة كبيرة وهي تخلق تشبيهاتها ومجازاتها وانزياحاتها، ولعل تشبيه الشاعرة للغياب بشوكة عالقة في حلق طفل أبكم تدل على هذا العمق الذي أومأنا إليه:

"موت أحدهم في القلب

شبيه

بالسقوط من علو شاهق

يشبه شوكة عالقة

في جوف طفل أبكم" ص 35 / 36

وهذا يؤشر على أن معاناة الغياب تظل تتردد في الأعماق وفي صمت رهيب.

إن للشاعرة قدرة رائعة على خلق توازنات تقابلية حادة تمررها للقارئ بسلاسة جميلة:

"مطرودة أنا

من جنة الحب فوق رأسي ملاك

يتلو

آيات شيطانية " ص 36

وحينما يمتلك الشاعر رؤاه ولغته وأخيلته يستطيع أن يخلق عوالم من الجمال متفردة، نقرأ بإنصات كبير هذا التشبيه:

"قرص القمر

وجه الحبيبة عند الشعراء

رغيف جوعى العالم

موائد مستديرة لأشلاء وطن منكوب" ص31

ها هنا يحضر الإبداع بصوره الجميلة، وكيف يراه كل من وجهة نظره وخصاصته، قرص القمر خلقت منه الشاعرة امتداداً تلاثي الأبعاد عند الشعراء وجوعى العالم والوطن، إن الشاعر يتصوره وجهاً للحبيبة وهو يتأمل مأخوذاً بفتنة العشق، ولكن نفس الصورة تصبح رغيفاً مشتهى عند جياع العالم، فالمأمول نتخيله عفوياً... وهذه الدائرية حافظت على حضورها بشكل مختلف بين القرص والرغيف والموائد المستديرة بصيغة الجمع لوطن منكوب جعلوه أشلاء بفعل الاستغلال واللا مواطنة.

وكلما أمعنا السير في هذا الشارع في دروبه وعتباته وأبوابه، كلما قرأنا عمقاً كبيراً.

إن الشاعرة برغم ذلك تراهن على المستقبل أمام هذا الظلام:

"أنا ابنة الضوء

وهذا الأفول

لا يناسبني" ص45

لعل عين الشاعرة كانت راصدة دقيقة لما يجري في الواقع اعتماداً على إحساسها الرهيف الذي جعلها تعيش آلام الناس والواقع والحياة، لذلك لاذت بالشعر بديلاً عن واقع لا يستقيم، تقول:

"أكتب الشعر... لأنني

لا أتقن لغة الأرقام في تقلبات البورصة" ص10

فهذه الحياة / الموت لا بديل عنها إلا بعيش يجعلها مستساغة عن طريق الشعر:

"أكتب الشعر

لأورثكم زمرة دمي الثائرة

لتكتبوا على شاهدة قبري:

هنا ترقد امرأة عاشت بقلب أحمر

فارتوت من نبع القصيد

ونجت من حياة جائرة" ص 10

وإذا كان الشعر بديلاً عن الحياة، فإن الشاعرة كامرأة لا تنجب أولاداً، بل تنجب قصائد:

"استيقظ أيها الليل

ثمة امرأة تنجب

كل مساء نصوصاً طرية"ص21

في رحلة الشاعرة عبر شارعها القديم جربت استعمال مختلف الأساليب التي تخدم جمالية القصيدة كالاستفهام والسرد والحوار، إلى جانب صيغتي (افعل ولا تفعل) وما تحيلان عليه من دلالات دينية انطلاقاً من معجم: (دين الهوى ـــــ المقدس ـــــ تعمّد ـــــ الرب ـــــ آلهة ـــــ الأناشيد ـــــ المعبد ـــــ آيات شيطانية ـــــ قميص الذكرى...).

و في ذات الرحلة المبدعة تمارس علينا اللغة فتنتها بإيعاز من الشاعرة، فتدخلنا عبر دروب الشارع القديم في خانة الثوار والملائكة والشياطين، ولتعترف ودائماً بوشاية من اللغة أنها سارقة، لكن سرقتها ليست مندرجة في قضايا جنائية، بل إن سرقتها من نوع خاص، إنها تسرق ما لا يسرق "تسرق الجمر من تاريخ الحكايات": لتقبض على الخيوط الحارقة الضاربة في ذكريات الفقد الموجعة، لهذا تكون نصوصها نتيجة كتابة تعج بالغيوم، غيوم ذات راسخة في الوجع لا تسقط من حسابها ردة فعل القارئ الذي يقول على لسان الشاعرة: (سحقاً لك من شاعرة):

"أكتبني نصوصاً غائمة

تعكر صفو مساءاتكم فتهتفون

سحقاً لك من شاعرة" ص96

وإذا أردنا أن نقبض على الصيغ المهيمنة في هذا المنجز الشعري، فإننا نرصد بعجالة مجموعة من التيمات التي تواترت بأساليب مختلفة، كالموت والغياب والرحيل والوجع والحزن، هذا الأخير الذي جعلته جميلاً في قصيدة تحمل ذات العنوان "حزن جميل" ص 63

ولعل الليل كان زمناً مهيمناً بشكل لافت في الديوان، وحتى الصبح كان يحيل على الظلام:

"على الرصيف...

أنين يسحله الصمت

والصبح ضرير يتلمس طريق المعبد"

أما ضمير المتكلم فقد كان متحكماً في كل النصوص إلى درجة الهيمنة، إلا أن حضوره كان منخرطاً في هموم جماعية جعل الشاعرة تعيش همومها وهموم واقعها بتماهٍ كبير...

في الختام أقول إن الشاعرة قد انتهت كما بدأت، ولا أدري إن كانت قد فكرت في هذه الحلزونية التي ربطت بداية الديوان بنهايته، فالشارع له بداية ونهاية، لكن دلالة الموت التي أثثت البداية (لتكتبوا على شاهدة قبري / هنا ترقد امرأة عاشت بقلب أحمر...) ستكون ملفتة الحضور في النهاية "وحيدة أنا / لا أثر لي بعدي / التهمني / فأصير على شكل قصيدة مهاجرة" ص101

من الملاحظات المثيرة في هذا المنجز الشعري، هذا التقليد الذي تميزت به الشاعرة وهو تدبيج كل قصيدة بعتبة شعرية تؤشر على النص وترتبط به دلالياً ولغوياً بشكل أساسي، وهذه العتبات أسميها بالديوان الموازي للشاعرة ثورية لغريب لنكون أمام ديوانين شعريين، فالعتبة تعرف تكثيفاً لغوياً كبيراً كما نلحظ في هذا النص:

"امنحني غياباً أطول

فأنا منذ آخر لقاء

أتنفس السراب وأحتضر" ص 25

فاللغة هنا خلقت عالماً تقابلياً بين الغياب واللقاء، بين الموت والحياة، بين حياة محتملة وموت أكيد، فإذا كان اللقاء مطلوباً حينما تحتد وطأة الغياب، فإن الشاعرة بفعل طلبي (امنحني) تطلب "غيابا أطول" لأن "آخر لقاء" جعلها تتنفس السراب وتحتضر.

لهذه العتبات سحرها، وهي تحتاج لوقفة قرائية نقدية لوحدها كديوان مواز...

بكلمة واحدة أقول إن ديوان الشاعرة تورية لغريب ما يزال في حاجة إلى كثير من الإنصات والتأمل نظراً ـــــ وبكل مسؤولية ـــــ قد أنصف الشعر وأعاد للقصيدة بهاءها، وما هذه الورقة إلا قراءة أولية أتمنى أن تكون قد أنصفت الديوان.

 

ذ. مصطفى امزارى / ناقد من المغرب.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في رواية "عِقد المانوليا" للكاتبة المغربية نعيمة السي أعراب بقلم الناقد عز الدين الماعزي

العاشق الأسود / قصة قصيرة / نعيمة السي أعراب.

أطياف المرايا / قصة قصيرة / الأديب المغربي الأستاذ رشيد مليح.