{ سيدتان عالمتان بسري } قصة قصيرة / الأديبة الروائية والقاصة السودانية الأستاذة مروة أسامة.
أتصبب عرقاً، أفرك كفّي بتوتر وعصبية شديدتين، وقع أنفاسي لا يستقر على وتيرة واحدة، إنه يتصاعد بصورة جنونية، يكاد يثقب رئتي.
حاولت تذكر تلك التمارين التي نصحتني بها زميلتي بغية الاسترخاء، وكانت قد قرأت بذكائها الارتباك البادي على جسدي ولغته، رغم محاولاتي البالغة في إخفائه عن الآخرين، كي لا أصير ذات يوم محطًّا لسخريتهم.
جاهدت نفسي على تذكر كيف كانت تلك التمارين... فعلت هذا خشية السقوط في شِباك الإغماء، الذي بالكاد أدركت عيناي غشاوته... رنوت إلى النافذة بنظرات ضيقة يغلفها الضباب، كنت في حال بالغ من الحاجة للإطلالة منها، لكن خطواتي لم تكن متواطئة مع تشبثي بالحياة، باغثتني رغبة التمسك هذه مثل شعور عابر.
لا غرابة، فقد ورثت قدماي تسمرًا بغيضًا يبدأ عندما أكون في حال من الفزع، كما هو الحال عليه الآن.
لوهلة، بدت لي حجرتي عالمًا شاسعًا، موغلًا في الظلمة والوحشة... كأنني سجين فيها منذ وقت بعيد.
ومض البرق بشدة، لدرجة يمكنه معها إضاءة العالم، ثم أعقبه هزيم رعد ظننته شق الأرض نصفين.
ركضت كما لا يفعل الرجال عادةً، كنت مثل فأر هرب إلى جحره... لذت بمرقدي متدثرًا بملاءتي، احتضنت نفسي، فقد أمكنني عقد ذراعي على صدري بقوة جعلت فكاكهما أمرًا مستحيلًا... عيناي جاحظتان، كأنهما تودان مبارحة محجريهما، وزائغتان تتحركان يمنة ويسرة، ممسكتان بزمن إيقاع ضربات قلبي المتلاحقة...
استمرت قطرات المطر تضرب بغضب النوافذ الحديدية مدفوعة برياح جنوبية عنيفة، كانت بعضها تتسرب إلى الحجرة عبر فتحات السقيفة والتي كثيرًا ما ماطلتُ وسوّفتُ في أمر ترميمها، كما هي عادتي الذميمة دائمًا.
لابد أنها السبب الذي لأجله كرهتني تلك الفتاة التي فشلت في الظفر بها، فضلًا عن أنها وصفتني بالسمج والممل، وهي تعلن الانسلاخ عما يربطها بي.
لعنت نفسي لتسويفي كلما اصطدمت قطرة منها بالبلاط وأحدثت ذلك الصوت المريب... ازداد شعوري باللامعنى لاعتقادي أنني مجرد خلية في جسد الكون العظيم، والذي يحتضر، وهو الآن يقاوم الموت بغلواء.
ظل عقلي مشتعلًا بأفكار بالغة الجنون والغرابة، ربما هي مصدر مخاوفي من مجرد تخيل المطر يهطل.
فيما مضى، كان لوقعه رنين شاعري، وذلك عندما كنت لا أزال صبيًّا يافعًا لم تكلس عقله أفكار فلسفية لأشياء ظن حدوثها عفويًّا كانتمائه لأبويه، بل وحتى وجوده في الأساس.
كيف أمكن لي في ذلك الحين التفكير أن السير تحت زخات المطر دواء سحري لاعتلال المزاج؟ !
اشتد صرير الرياح، وصار صوتها أشبه بصوت أشباح غاضبة، أو ربما متضرعة، في عبادة شيطانية تجوب عالمي المصبوغ بظلمة توازي شعوري الفناء، والذي يتعاظم كلما طرق تفكيري أن المطر ليس سوى ثورة غضب.
كانت لحظة من العبث جعلتني أشعر باللامبالاة حيال سماعي صوت انبجاس المياه من أسفل الباب إلى داخل الحجرة، مستسلمًا لحدوث ما يريد أن يحدث، وكنت قد توقعت أن تلك الأوراق البحثية التي مكثت طويلًا أجمعها وأدونها تطفو على سطح الماء، بعد أن تناثرت من يدي اللتين ارتعشتا جراء انفجارات رعدية مدوية، كما أن لا شيء سيصادر حريتها في البحار... لطالما كانت حجرتي تتسم باتساع مريح، وذلك لعدم تكدس الأثاث داخلها، فعندما قبلت تلك العجوز واجمة الوجه منحها لي مستأجر، بعد إلحاح مميت، خشية أمر لا يعلمه سواها، لكنني خمنت أنها لا تطيق نزق الشباب، ما دفعني للإضاءة على ما يشغل تفكيري، وبجهد بالغ استطعت إقناعها أنني أنفق جميع أوقاتي لأجل إكمال دراسة بحثية يمكنها تغيير حياتي، بل وحياة البشر قاطبة.
كانت غير مدركة لما أقول، لكنها أظهرت تقديرها لحجم ما أقوم به، أو إنها كانت تجدني مثيرًا للشفقة كما يراني أي شخص يلمح تلك الهالات السوداء التي تطوق عيني الغائرتين، وما حاق بجسدي من هزال.
لم يكن سوى أن أنذرتني بأنني لن أعمر طويلًا في منزلها إن كنت من أولئك المتطفلين فاغري الأفواه للثرثرة، ولربما كانت لا تعلم أنني إله للصمت.
ذات المساء، عادت تطالبني برقم هاتفي، وآخر لأحد أفراد عائلتي... عندما أخذت أقلب صفحات المفكرة التي ناولتني إياها حتى أجد لي مكانًا فارغًا باغثتني الأسئلة حول تصرفات تلك العجوز، غريبة الأطوار.
تُرى هل تظن أنني نزيل فندق فاخر؟ أو إنها تخشى أن أكون مجرمًا هاربًا من العدالة؟ لكن لماذا رقم هاتفي، وليس بطاقتي الشخصية؟ !
أخرستُ صوت عقلي لأرد على غرابتها بالمثل، كتبت رقم زميلتي بجانب رقمي، وأشرت زاعمًا إلى أنها فرد من عائلتي، ودون أن تنبس بكلمة تجهمتني وهي تفحصني بنظرات حادة أثارت في نفسي الارتباك، وتخيلت أن كذبتي قد افتضحت، وسوف تزج بي خارج منزلها، لكنها انصرفت بصمت متباطئة الخُطى.
أقضي طوال الليالي ساهدًا جالسًا على كرسي خشبي مهلهل القوائم، تظل تلازمي فكرة السقوط، إلى أن أنتقل بكياني الروحي لعالم آخر، حين تفتح الكتب بوابتها باتساع يتيح لشغفي الكبير أن يمر عبرها بارتياح، تاركًا خلفي جسدًا منتفخًا من فرط استنشاقه العبث.
ما يحدث الآن ليس بمزحة، أو كابوس مزعج، كما تمنيت، لكن حقًّا كانت حجرتي تدور بسرعة فلكية، الأحداث تنفلت من مدارها الزماني المعلوم... تقلصت الأشياء في نظري إلى أن تلاشت تمامًا، وربما ابتلعها كائن رعدي مزمجر، كما غيب حواسي عن الإدراك، لكن شيئًا ما بداخلي ما يزال على قيد الحياة يحركني لأستجيب لصوت يناديني بلهفة: هيا، انهض يا عزيزي، أعدك أن كل شيء سيكون بخير.
استعادت جميع حواسي حيويتها في ميلاد جديد، أطبقت كفي على كفها الرابضة فوق وجنتي وهي تحاول إفاقتي، ثم نظرت إلى تلك العجوز بجانبها وقد بدت أقل وجومًا، بل وفي غاية اللطف، عندما استنتج عقلي ما فعلته حتى تحضرت زميلتي لتذكرني بتمارين الاسترخاء، وبصوت مجهد قلت: الآن قد علمت سيدتان بسري الذي لا أخشى بعده افتضاح مشاعري أمامهما.
تعليقات
إرسال تعليق