التاريخ في مسكن الاستعارة / رؤيا النسق الاستعاريّ المفارق في شعر محمود درويش / محمد علوط / المغرب.
التاريخ في مسكن الاستعارة
رؤيا النسق الاستعاريّ المفارق في شعر محمود درويش
محمد علوط
الدار البيضاء - المغرب
فبراير 2023
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
مشاركتي في أشغال الندوة الأكاديمية التي نظمها بيت الشعر بالمغرب بشراكة مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس فاس
يومي 1 - 2 مارس 2023
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
سأنطلق من الاستدلال الشّعري المقتبس من ديوان "أحد عشر كوكبا" لمحمود درويش:
(لم يبق في الأرض متسع للقصيدة، يا صحبي
فهل في القصيدة متّسع، بعد، للأرض بعد العراق؟) / (1)
وذلك لأن المحمول المجازيّ / الرمزيّ لهذا النّص يتأسّس على قلب للمعادلة: [البحث عن كينونة شعرية في التاريخ] بإبدال استعاريّ وهو [البحث عن كينونة تاريخية في الشّعر]، وهما منطلقان يختلفان في المقدمات والنتائج، كما يختلفان من حيث الأساس التّصوريّ الإدراكي .
انطلق درس [تاريخ الأدب] من أساس المعادلة الأولى: اعتبار التاريخ وعاءً لِ "حفظ" الكينونة الشعرية، ولدينا مثال جليّ في كتاب الأستاذ الحسين لغوالي "الشعر والتاريخ" (2020) / (2)، الذي يعتمد قياسات منهجية تقوم على [نسق المماثلة] بين الشّعر والتاريخ، سواء في أدبيات ومسلكيات تاريخ الأدب أو الدّرس النّقدي الّذي اعتمد المنهج التاريخي والاجتماعي، وكذلك المنهج الواقعي في قراءة المتون الشعرية.
استنادات هذا التّصور في الإدراك لا تتناسب مع توجّهنا في هذه القراءة، وذلك للاعتبارات التالية :
أ – النّظر الحصريّ للشّعر كوثيقة تاريخية: وهو الأسّ النّاظم لقياسات [الشّاهد الشعري]، الذي يتماثل إجرائياً مع [مبدأ المناسبة] ويضارعه في ذلك خطاب [أسباب النّزول] في علم التفسير .
ب – تجريد الشّعر من حقيقة كونه [واقعة تاريخيّة] ذات محايثة أنطولوجيّة مع الواقع التّاريخي كما توضّح ذلك، على سبيل المثال، استدلالات إدوارد كار في كتابه [ما هو التاريخ؟] / (2018)
هذا الأخير ينطلق من تفسير تالكوت بارسونز للتّاريخ باعتباره [نسقاً انتقائيّاً] للتوجهات المعرفية نحو الواقع (3)، ويترتب عن ذلك أن كلّ تمثيل انتقائيّ للواقعة التاريخيّة ينتهي بها إلى مستوى الأمثولة كمعرفة أليجوريّة، بسبب وقع قياس الانتقاء والاخترال والمماثلة .
من خلال مجازات النّسق الأمثوليّ قارب المرحوم الدكتور محمد مفتاح علاقة الشعر بالتاريخ في مراثي ممالك الأندلس لأبي البقاء الرّندي، وكذلك حضور الأثر التّاريخي في شعر عبد الرّفيع الجواهري ومحمد الخمار الكنوني ومحيي الدين خوجة ومحمد بنطلحة، مع انتباهه إلى كون هذا الأخير (محمد بنطلحة) ينتهج في كتاباته الشعرية [نسقاً مفارقاً] لأنه يستند إلى وعي ما بعد حداثيّ رؤاه المعرفية منشدّة إلى خطاب [نهاية التّاريخ] /(4) .
على الضّفة الموازية للذين يفسّرون الشعر بالتّاريخ لا شيء يمنعنا من أن تفسّر التّاريخ بالشعر:
في شرحه لمفهوم الواقعة التاريخية يستعير إدوارد كار قول إحدى شخصيات بيرانديلو (Pirandello) في مسرحيته "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" تقول: "إن الوقائع كالحقائب لن تستقيم إلا إن وضعت شيئا بداخلها" / (5)، يتغير وعينا بالتّاريخ حين نفرغ تلك الحقائب ونضع أشياء أخرى فيها.
والواقع أنّ هذه المهمة: مهمة تغيير مرجعيّة التّاريخ ووظيفته وتأويله مهمة يجب أن تكون مهمة تأسيسية، وهذا ما يفضي بنا إلى عمق الأسئلة الهايدغريّة .
هذا الأخير (هايدغر): "يعتبر أن تاريخانية الفن لا تنحصر بكونه دائماً ملتصقاً بعالم تاريخيّ معيّن، أي بكونه راسخاً دائماً في سياق ما (وهذا مالا ينكره أحد) ... خاصيّته تكمن بالأحرى في وظيفته التأسيسية بالنسبة لهذا العالم ... ويعني ذلك في الحقيقة الإصرار على أنّه يفتح المصير التّاريخي لشعب ما" / . (6)
يشير جان ماري شيفر في كتابه "فن العصر الحديث" (2021) إلى أنّ هذه الأطروحة سيعود إليها هايدغر في ندوة له شتاء 1934 – 1935 مطبّقة على الشعر هذه المرّة، يقول هايدغر: "ينبجس من الشعر الذّزاين / الوجود التّاريخي للشعوب، وصعودها، وبلوغها الذروة، وانحطاطها [...] وتنبجس منه أيضاً المعرفة الأصليّة، بمعناها الفلسفيّ، وينبثق منهما معاً تحيين الكيان العينيّ لشعب ما بوصفه شعباً من خلال الدّولة، هذه هي السّياسة، هذا الزمن الأصليّ والتاّريخي للشعوب هو بالنتيجة زمن الشّعراء والمفكرين ومؤسّسي الدّولة، أي زمن الّذين يؤسسون الوجود التّاريخيّ للشّعب ويبرّرونه، إنهم المبدعون الحقيقيون" / (7).
هنا تتجسّد بجلاء قيمة الشّعر التّأسيسية المطلقة، ويجدر الانتباه إلى أن هايدغر في ذات السياق يعود ليعتبر الشّعر أوّل الثلاثة مطلقاً، بما أنّه يسبق المفكّر ، الذي يسبق بدوره مؤسّس الدّولة . (
لم تتأثّ تأسيسات هذا الوعي الهايدغري من فراغ معرفيّ، وإنما من صلب قراءات متغايرة تارة وقطائعية تارة أخرى لميراث فلسفيّ يمتد في السيرورة من أرسطو وأفلاطون إلى كانط وهيجل انصبّ كلّه على قراءة وتحليل العلاقة بين الشّعر والتاريخ.
لن أقدّم هنا مسردا لمسار هذا الميراث الفلسفيّ، فأنا أتوسّم بكلّ تأكيد أنّ هناك عروضاً ومداخلات كثيرة في هذه الندوة الكبرى، ستقف عند هذا الموضوع بالضرورة وتبرز جوانب كثيرة من أبعاده المعرفية .
ما يهم نسقّية الدّراسة التّي نحن بصددها هو التوكيد أنه في متن الميراث الفلسفي سابق الذّكر ظلّت علاقة الشّعر بالتاريخ هي السّناد المرجعي الّذي أفرز التّمثّلات المعرفية الأدبية لتحديد مفهوم الشّعر ووظيفته، وتحديد ماهية الأنواع الشعرية والخطابية وأجناسيتها، وبناء التمثلات البلاغية للخيال، ودور الاستعارة وعلاقتها بالتخييل الشّعري، وتمثيل المحاكاة، كإدراك موضوعيّ أو كتصوّر تجريديّ ورمزيّ، وعلاقة الاستعارة باللّغة والفكر وتقعيدات الفكر البلاغي .
لن أتوقف عند سقراط: أساتذتنا الأجلاء في رحاب جامعات مدينة فاس عاصمة الدرس البلاغي في العالم العربي يعرفون جيداً أن سقراط كان يتوجس دائماً من البلاغة وينبذ صنعة المجاز ويعتبرها [تعبيراً عن حقيقة زائفة، أو قول زائف بالنظر إلى ما هو حقيقة]، لم يخلف لنا سقراط سوى مبدأ الحوار السقراطي الذي ظل متوارياً أمداً بعيداً إلى أن استعادته مباحث التناص والبوليفونية مع باختين، وبعد ذلك نظريات الحجاح وتحليل الخطاب مع المعاصرين .
سأنطلق من استدلال مجازيّ تأسيسي أحب أن أسمّيه ب [الخطأ الهوميريّ] لدى أرسطو... أرسطو الباحث عن "الحقيقة" في منطق السببية (الـ : لماذا؟) ونظرية العلل الأربعة (9) في مواجهة هوميروس شاعر الملحمتين [الإلياذة والأوديسية] الّذي يروي: [ماضياً تاريخياً من الزمن الأسطوري، البدئي، التأسيسي، المطلق] .
أرسطو في كتابه (فن الشعر) يميز بين "الملحمة" و "التاريخ" إذ يرى أن "الملحمة تصف ما يمكن أن يقع في حين يصف التّاريخ ما وقع فعلاً" / (10)
في القياس الأرسطي ينطلق أرسطو من تصور بوجود "تاريخ فعليّ" يرى أن الملحمة لا تتطابق معه، لذا فهو لا يرى في الماضي الملحمي تجسيدا لتاريخ فعليّ ... ولأرسطو أعذاره التاريخية إذا صحّ هذا التعبير: كان درس البلاغة ما زال في أول التأسيس، ومبحث الاستعارة لم يتجاوز حد الكلمة والجملة، ولم تنشأ بعد أية معرفة ببلاغة النّص والخطاب، ونظرية الأجناس الأدبية ستبدأ التهيكل من خلال التقابل بين الشعر والخطابة وبعد ذلك من خلال مفهوم المحاكاة .
كما أن جينيالوجيا الخيال الاستعاريّ من خلال مباحث الحقيقة والمجاز احتاجت إلى تعاقب أزمنة فلسفية كبرى لنصل إلى فهم نظم الخيال الثلاثة الكبرى: [الخيال الأسطوريّ، والخيال اليوتوبيّ، والخيال العلميّ] والكشف عن مكانة ودور الاستعارة في تشكّل هذه الأنساق التصوريّة المجازية .
لم ينظر أرسطو إلى التّاريخ الملحمي لدى هوميروس كماض أسطوري يعتمد [التمثيل الاستعاريّ] كما يوضّح لنا ذلك باحث كبير مثل مارسيا إلياد في مؤلفة الشهير "مظاهر الأسطورة" (11) فالاستعارة في اللغة الأسطورية وفي الفكر الأسطوريّ تأخذ شكل حقيقة أولى: بدئيّة، أصلية وتأسيسية كما هو شأن الزمن والتاريخ في المجاز الأسطوريّ .
الواقع أن الكاشف الأكبر عن الدور التأسيسيّ للخيال الاستعاريّ في الفكر الأسطوري هو أرنست كاسيرر في كتابه "اللغة والأسطورة" (2009). (12) كلاهما، مارسيا إلياد كما أرنست كاسيرر كشفاً عن أنساق تمثليّة لوظيفتي الرّمز والاستعارة في اشتغال أي معرفة تطرح مسألة العلاقة بين العقل والتّاريخ , وخاصة من خلال الوقوف على التمايزات بين "التاريخ" و"الزمانية" وتجذيرات أنماط الخيال التجريدي .
سنفسّر السّبب الذي جعل أرسطو يجرّد "التّاريخ الأسطوري" من مقوّم الاستعارة بصورة مغايرة في نهاية هذا العرض، ونذهب إلى الأعمال الشّعرية الكاملة لمحمود درويش لنطرح سؤالا أعتبره جديداً واختلافيّاً في مباحث نقد الشّعر: فحوى السّؤال: [هل يمكن النّظر إلى تاريخ الاستعارة كحامل إسنادي لمفهوم التّاريخ كاستعارة]
(L’histoire de la métaphore/L’histoire comme métaphore) .
نحن نعي جيداً أنه [سؤال تفكيكيّ] ، هذا الوعي التّفكيكيّ أبرزناه من أوّل منطلق هذا العرض حين أوردنا الاستدلال الشعري لمحمود درويش
( لم يبق في الأرض متّسع للقصيــــدة
فهل في القصيدة متّسع، بعد، للأرض )
وأشفعناه بتناظر تفكيكيّ يخص علاقة الشعر بالتاريخ من خلال القلب الاستبداليّ : [البحث عن كينونة تاريخية في الشّعر] محلّ [البحث عن كينونة شعريّة في التّاريخ] .
محمد درويش هو أكثر شعراء الحداثة الشعرية العربية انشعالاً ب [سؤال التّاريخ] ، ويمكن من خلال الوعي بسؤال التّاريخ أن نميز في نتاجه الشّعري بين رؤيتين :
(أ)- رؤية أولى، رغم مغايراتها النصية الجمالية، وأنساقها التعبيرية الرمزية، ودون نوايا تنميطية جاهزة، فإنها [رؤية تسجيلية] وتشمل أعماله الشعرية من ديوانه الأول "عصافير بلا أجنحة" إلى ديوانية "مديح الظل العالي" و "مدائح لحصار البحر" اللّذين كتبهما على إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982 .
(ب)- رؤية ثانية، تشمل كل أعماله الشعرية الّتي أتت بعد ذلك وسنسمّيها مبدئياً، [رؤيا النّسق الاستعاريّ المفارق] ، وهي رؤيا انقلابية، متمردة، على الابستيمي التّسجيلي للوعي الشّعريّ السابق .
في الرؤية الأولى نقرأ درويش: [شاعر الأرض المحتلة] ، وفي الرؤيا الثانية نقرأ درويش: [شاعر الفكر الّذي ليس أرضا محتلة] .
في الرؤية الأولى تدخل [الاستعارة] بيت الطّاعة في خدمة الوظيفة الايديلوجية، حيث المعنى الاستعارّي يلهث خلف ظلّ التاريخ، والرّوح الاستطيقية للاستعارة، كما الرّمز، تؤرشف لزمن الاغتراب في بينونة التّاريخ واليوتوبيا، أما في الرؤية الثانية فنجد الاستعارة تنضو عن عري تكوينها الخالص أقنعة الظّل التّاريخيّ، وتتخلّق كمجار يمنح اللغة الشّعريّة كينونة ميلاديّة تؤسس لتاريخ بدئي، تاريخ مؤسطر يستعيد جينيالوجيا أنسابه في النّشيد الكونيّ للذّات واللّغة والذاكرة والعالم .
لم يكن محمود درويش شاعراً مسرفاَ في إصدار البيانات الشعرية أو التنظير النقدي لتجربته الإبداعية، ومع ذلك نعثر على إدبارات له تشير إلى التّمايز التّقابلي الّذي أشرنا إليه، فحين أصدر ديوانه "مديح الظل العالي" وضع له التّعيين الأجناسيّ التالي [قصيدة تسجيليّة] ، هكذا دخل التّاريخ إلى القصيدة في "مديح الظل العالي" كما في "حصار لمدائح البحر" وصار "محفلاً شاهديّاً".
لا أشكّ أن براديغم [التّسجيلية] أحد انعكاساته السّلبيّة أنّه وجّه فعل الّتلقي وخلق للقصيدة لدى المتلقّي أفق انتظار جاهز، وعطّل دينامية الاستعارة كإبداع وخلق بأن جلعها مرتهنة ب [وهم الانعكاس المرآوي] وبإسقاطات الوظيفة الإيديولوجية على عمل الخيال الشّعري، وتأطيرها للغة الشّعرية، في نسق غنائيّ يغترب بين الوقع الملحميّ والواقع التراجيديّ .
سينتبه محمود درويش بنفاذ بصيرة شعريّة متوهّجة وخلاّقة لهذا المناخ الشّعريّ الجنائزيّ بكامل مفارقاته العبثيّة والسوريالية بين حدّي البعد الملحميّ والبعد التراجيديّ [وهو ما يمكن معاينته من خلال قراءة قصيدة "سنختار سوفكليس" من ديوانه "أحد عشر كوكباً] .
بعد هذا، تتشكل اللّحظة المفصليّة في الاختيارات الجمالية للشاعر لما بعد [مديح الظل العالي و حصار لمدائح البحر] ، لنستمع إليه يقول: "كان هاجسي في تلك القصائد أن أنقل الواقع إلى مستوى الأسطورة، وأن أزجّ بالأسطورة في تفاصيل الواقع، أسطرة الواقع وواقعيّة الأسطورة، لأنه كان هناك بطل وبطولة، وكنّا ضحايا تسعى إلى التّحرر والحرية من خلال تحوّلها إلى صياغة بطوليّة، وكان لابد لأي شاعر في ظروفنا الوطنية أن
يعمل بلا معاونين، كان عليه أن يعمل وحيداً، كان عليه أن يكون مؤرّخاً وجغرافياً وعالم أساطير ومفاوضاً ومحارباً" .(13)
يتطابق هذا الاختيار مع ما أوردناه بخصوص [رؤيا النّسق الاستعاريّ المفارق] الّذي يمكننا استجلاء مظاهره الرّمزية من خلال نصوص شعرية دالّة، سنختارها أغلبها من ديوان [أحد عشر كوكبا]، ومن خلاله سننتقل: من قراءة الشّعر كشاهد تاريخيّ إلى قراءة التّاريخ كاستعارة شعريّة .
تبتدئ الاستعارة الأسطورية في التّشكّل من خلال نبرة لغة يتماهى فيها صوت الشّعر بصوت السّرد: ينبغي أن يستعيد الشّعريّ [سروده المؤسّسة] من تاريخ، الحضور فيه ليس سوى مجاز فقدان :
(أنا آدم الجنتين ، فقدتهما مرّتين)
= من قصيدة : لي خلف السّماء سماء.
ثمّة لحظة غسقيّة، لإعلان أفول تاريخ في [الرّحيل الأخير / المساء الأخير] ، يشحب الواقع في غسق الرّؤيا ، لتنهض [استعارة مرآوية لزمن ميلاديّ] يتشكل في أرض القصيدة :
(المرايا كثيرة
فادخلوها لنخرج منها تماما،
وعمّا قليل سنبحث عمّا كان تاريخنا حول تاريخكم في البلاد البعيدة وسنسأل أنفسنا في النهاية:
هل كانت الأندلس ههنا أم هناك؟
على "الأرض" ... أم في "القصيدة؟".
= من نفس القصيدة سابقة الذكر.
في [الاستعارة الهوميرية] الّتي رفضها أرسطو تنشأ الرّمزيّة الإبداليّة حين يستبدل هوميروس "زمن أثينا / الّذي هو تاريخ فعليّ" بزمن الأساطير والآلهة وأنصاف الآلهة، وهو زمن البدء والتّأسيس، الزّمن الّذي يتوحّد في جوهره بالمطلق الكوني.
على أثر [هوميروس] يعيد محمود درويش لـ [التّاريخ] هويته البدئيّة والتأسيسيّة من صلب تأسيسات الخيال الأسطوريّ، يتوحّد [الشعريّ] لديه بالمبدأ الأصل للكينونة، تنهض [كينونة تاريخيّة جوهرية] من خلال قوة [الفعل الشّعري] ، إنها الاستعارة التي لا تعيد كتابة التاريخ بل تخلقه تبدعه ، تجعله ينبجس متوحداً برمزيّة وظيفته الأنطولوجيّة .
نتلو مع محمود درويش :
(لنا ما لنا ، كل شيء هناك لنا ...
أمسنا يرتّب أحلامنا ، صورة صورة ،
ويذهب أيّامنا وأيّام إخوتنا السّابقين ، وأيّام أعدائنا السّابقين ونحن الّذين احترقنا بشمس البلاد البعيدة ، نحن الّذين نجيء إلى أوّل الأرض
كي نسلك الطّرق السّابقة
وكي نملك الوردة السّابقة
وكي ننطق اللّغة السّابقة
سنختار "سوفوكل" قبل "امرئ القيس" ، مهما تغيّر تين الرّعاة وصلّى لقيصر إخوتنا السّابقون وأعداؤنا السابقون معا في احتفال الظّلام ...
ومهما تغيّرت دين الرّواة ،
فلا بدّ من شاعر يفتّش عن طائر في الزّحام ليخدش وجه الرّخام ويفتح فوق السفوح ممرّات آلهة عبرت من هنا لتنشر أرض السّماء على الأرض ،
لابدّ من ذاكرة لننسى ونغفر حين يحلّ السّلام النّهائي ما بيننا وبين الغزالة والذئب ،
لابدّ من ذاكرة لنختار "سوفوكل" في آخر الأمر ،
كي يكسر الدّائرة
ولا بدّ من فرس فوق ساحات هذا الصهيل ...)
من قصيدة "سنختار سوفوكليس" ، ديوان (أحد عشر كوكبا)
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش الدراسة :
- من قصيدة : "فرس للغريب : إلى شاعر عراقي" ديوان "أحد عشر كوكبا" دار العودة ، بيروت ، 1992 ، ص 84 .
- الحسين لغوالي : "الشعر والتاريخ : مقاربة منهجية " ، مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال ، ط 1 ، 2020 ، مراكش ، المغرب :
– إدوارد كار "ما هو التاريخ ؟" ، ترجمة ريهام عبد المعبود . ط 1 ، 2018 ، عالم الأدب ، بيروت ، لبنان، ص 98 .
– را : محمد مفتاح : "المعنى والدلالة" ، المركز الثقافي للكتاب ، الدار البيضاء ، المغرب ، (فصل الصور والناقور- ص 189).
- إدوارد كار : "ما هو التّاريخ ؟" م . س – ص 10 -11 .
- را : جان ماري شيفر : "فن العصر الحديث : الجماليات وفلسفة الفن من القرن الثامن عشر إلى اليوم" ، ترجمة فرانك درويش ، هيأة البحرين للثقافة والآثار. ط 1 ، المنامة ،2021 . ص 508.
- نفس المرجع السابق ، ص 509 – 510 .
- نفس المرجع السابق ، ص 510 .
- سعيد الغانمي : "فاعلية الخيال الأدبي : محاولة في بلاغة المعرفة من الأسطورة حتى العلم الوضعي" ، منشورات الجمل، بيروت ، لبنان 2015 . ص 123 .
- نفس المرجع السابق – ص 134 .
– مارسيا إلياد : "مظاهر الأسطورة" ، ترجمة نهاد خياطة ، دار كنعان ، دمشق ، 1991 .
– أرنست كاسيرر : "اللغة والأسطورة"، ترجمة سعيد الغانمي ، كلمة ، الإمارات العربية المتحدة ، أبو ظبي ، 2009 .
ـ
محمود درويش ، نقلاً عن : "محمود
درويش ... لا أحد يصل"، مجلة الشعراء ، العددان الرابع والخامس ، المركز
الثقافي الفلسطيني ، رام الله ، 1999 ، ص 19.
محمد علوط / المغرب
تعليقات
إرسال تعليق