[ سلمى براهمة تكتب: الذات، الزمن، والطبيعة في رواية شعيب حليفي "خط الزناتي" ]
[ سلمى براهمة تكتب:
الذات، الزمن، والطبيعة في رواية شعيب حليفي "خط الزناتي" ]
Selma Brahma
تمهيد:
لعل أهم ما يستوقفنا في آخر أعمال شعيب حليفي الروائية "خط الزناتي" (الصادر سنة 2023 عن منشورات السرديات) هو التوظيف اللافت و"المثير" للبيئة الطبيعية بشكل عام بأغلب مكوناتها، من أرض وسماء وتراب وشجر وحجر وطير وحشرات، وللحيوان بصفة خاصة بخصائصه الواقعية، وبدلالاته الرمزية وتوظيفاته المجازية. وهذا ما يجعلنا نتساءل: هل هو توظيف فرضه فضاء الأحداث، (البادية في يوم انتهاء موسم الحصاد، وليلة الاحتفال باستكمال هذه المهمة) ويأتي في إطار التوظيف الفني الجمالي (الجزئي والمحدود) وهذا سبق لشعيب حليفي أن قام به، حين وظف الحمار في روايته "مجازفات البيزنطي" ليسخر من الواقع وادعاءات حكومة التناوب الديموقراطي وينتقد شعارات المصالحة التي رفعت في المغرب في العقد الأخير من القرن العشرين)؟ أو يأتي في إطار التوظيفات الخارقة والعجيبة والفانطاستيكية، والتي يطرح من خلالها الروائي عموما أسئلة الواقع وأسئلة الوجود الإنساني في ظل المجتمعات الحديثة، وهذا يتزايد وروده في الأعمال الروائية المغربية، إما استلهاما للمسخ الكافكاوي، أو ل"الحمار الذهبي" للوكيوس أبوليوس؟ أم يتعلق الأمر بتجل من تجليات الوعي البيئي في الأدب، والذي يتزايد الحديث عنه في الآونة الأخيرة من قبل النقد الأدبي الإيكولوجي، ونكون بذلك أمام نص بيئي، مدرك لأهمية البيئة، لذلك يتغيا خلخلة المركزية البشرية، ويدعو سرديا لتعايش الإنسان والحيوان، وكل المكونات البيئية، وللتحقق الأدبي لما يعتبره بعض نقاد هذا الاتجاه "أنسنة الحيوان وبيئئة الإنسان"؟
إن قراءة متأنية لرواية "خط الزناتي"، تجعلنا نفترض أننا إزاء استراتيجية (متكاملة) يتم فيها توظيف الطبيعة خاصة الحيوان إلى جانب تقنيات وآليات فنية أخرى كاللعب، والسخرية، وتعدد السراد، والتكثيف اللغوي والترميز، وتعدد الخطابات، وكل ذلك للتعبير عن رؤية عميقة للذات والوجود والزمن "الذي ليس إلا الوجه الآخر للكون"، رؤية تعبر عن حاجة الإنسان لسبر غور ذاته، وللإنصات والتأمل في كل ما يحيط به، لبلوغ نوع من السمو الوجداني والروحي، ودرجة من الارتقاء بالأنا للحلول في كون تتعايش كل مكوناته وتتفاعل، و"يتكلم لغة واحدة". وهذه الرؤية لا بد أن يكون الوعي بالبيئة أحد أركانها لأنها تلح في النهاية على حقيقتين اثنتين: الحقيقة الأولى هي أن الإنسان/ الفرد ليس إلا جزءا من هذا الكون الفسيح بأرضه وسمائه ونباته وأغراسه وحيواناته. والحقيقة الثانية هي أن الزمن سرُّ الأسرار، لا الإنسان ولا الكائنات الأخرى الحية بقادرة على رد سطوته. ولهذا سيكون الزمن، والطبيعة/البيئة، والذات ثلاثة مفاتيح أساسية لأية قراءة ممكنة.
الزمن تيمة روائية
يكاد لا يخلو عنوان من عناوين الفصول العشرة التي تنقسم إليها الرواية، أو العناوين الداخلية الكثيرة في النص من معجمي الزمن والطبيعة: (الفراشة والفجر-الثعلب والراعي-ساعة العصر.. تختلط الأزمنة كلها! -هوهات هوهات ياسوسو-من قال إن الليل قطعةٌ واحدة-زلة الليل-في الليل لا ينام النهار-مجامر الليل لا تنام-في الفجر تهبط الكناوية إلى السماء). كما يصر المؤلف في الصفحة الأولى، وتحت عنوان "كائنات الرواية" على جرد هذه الكائنات والتعريف بها باقتضاب شديد، وسيورد تحت هذا المسمى الزمن، والمؤلف، والشخصيات الآدمية، والحيوان، والطير، والجماد. وهذا إنما يؤكد على مركزية هذين المكونين، بل يجعلنا نجزم أن الزمن تيمة روائية محورية في "خط الزناتي"، ستدور في فلكها التيمات أخرى.
ولذا سنجد أن الرواية تُفتتح وتُختتم بالحديث عن الزمن، وإذا كان زمن القصة لا يتعدى اليوم الواحد، فإن الأحداث في الفصل الأول تنطلق مع اللحظات الأولى للفجر، وتنتهي في الفصل الأخير بظهور الخيوط الأولى لفجر آخر، مما يشير إلى أن زمن الخطاب كان متعاقبا والأحداث متسلسلة متتابعة خطية رغم الاسترجاعات الزمنية الخارجية الكثيرة، والتي كانت ضرورية للتعريف بالشخصيات التي ستدخل مشهدي إنهاء الحصاد والاحتفال. والمثير أن خطية الزمن هذه وسطوتَه وغموضَه وأسرارَه، ستكون موضوع حوارات وتأملات وأسئلة تطرحها شخصيات الرواية البشرية وغير البشرية، وتسائل معها وضع الإنسان "العالق" داخل تعاقب وتناوب ودوران الليل والنهار، القمر والشمس، الموت والحياة، النور والظلام، النوم واليقظة، الماضي والحاضر، ... ولذلك ربما سيقتنع موسى الزناتي أن "يوما واحدا يكفي للحياة"، وتكون هذه آخرَ جملة يكتبها على التراب ونفسه "يغمرها اطمئنان لامحدود"، وتكون آخرَ جملة يختم بها الروائي روايته، مما يجعلنا نقول إن تحديد يوم واحد زمنا لأحداث هذه الرواية هو اختيار له دلالته، وأبعاده الفكرية والوجدانية، ويؤكد ما افترضناه في البداية أي أننا أمام رؤية خاصة للزمن. وهنا لابد من التذكير بأن كل ما سبق سيترتب عنه من جهة هيمنة الزمن النفسي، ومن جهة ثانية سيكثف حضور البيئة من خلال التأملات في الليل والنهار، الشمس والغروب، والسماء والنجوم. كما تجدر الإشارة إلى أن تلازم حضور الزمن وكائنات البيئة سيسهم في تشكل المعنى وتعدده واتضاح الرؤية، فحضور الفجر والفراشة معا في بداية ونهاية النص يجعل دلالات التحول والبعث والولادة والطمأنينة تنتصر على إيحاءات الدائرية والتكرار والانغلاق.
الحيوان كليم موسى الزناتي
رغم أن النقد البيئي وكغيره من نقود ما بعد الحداثة لا يمدنا بخطوات منهجية دقيقة أو بشبكات للتحليل، كما عودتنا المناهج السابقة خاصة البنيوية، إضافة إلى كونه لازال جديدا طارئا، في النقد الأدبي الغربي والعربي، ولكن من خلال الدراسات القليلة التي اطلعت عليها يبدو أن نص حليفي يتوفر على الكثير من المحطات التي يراها هذا النقد تعبيرا عن وعي بالبيئة، وبأهميتها، ووعيا بالمخاطر التي تتهددها، ويكون الفاعلَ الرئيسيَّ فيها هو الإنسانُ وحضارتُه وتقدمُه. ومن هذه المحطات:
- اختيار البادية فضاء رئيسا للأحداث، (هناك من يختار الحديث عن البيئة من خلال أدب المدن الفاسدة أو الشريرة أو ما يسمى بالديسْوتوبيا Dystopia) واختار التمثيل الإيجابي للبادية من خلال تصويرها عالما مثاليا متناغما كان الملاذ الأخير، و"المساحة الهادئة" التي اختار موسى الزناتي العيش فيها بعد قراره الابتعاد عن "مصارعة القدر"، إنها فضاء الهوية، والانتماء الأول (وربما الانتماء الحقيقي؟ بينما انتماءات أخرى تظل وهمية)، لذلك كانت العودة إليه هي عودة للجذور، للأصل. وهي فضاء الطفولة والبراءة والأمان بوجود الأب (قبل الإحساس باليتم الذي سيلازم موسى الزناتي بوفاة الوالدين) فحيثما كان يولي موسى نظراتِه في أرجاء الخلاء الفسيح كان يرى "الطفل الذي كانه". كما أنها فضاءٌ لتجسيد كل القيم الإيجابية ومنها الوفاء للعائلة وللأسلاف، للجد القريب، والجد الأبعد (عبد الله الزناتي، المغربي الذي عاش في نهاية القرن الثاني عشر وبداية القرن الثالث عشر ميلادي، صاحب مخطوطة "الفصل في أصول علم الرمل")
- العلاقة الوجدانية والتفاعل الاستثنائي بين موسى الزناتي وجل الكائنات غير البشرية، خاصة الحيوان، فموسى الزناتي بعد استرجاعه لفدان العنب وإصلاحه واستقراره بالبادية وبعد اكتشافه عقمَه "تغيرت نظرته إلى الحيوانات فكان يعاملها كأنها من صلبه بعدما فتح لها ضيعتَه، يراقبها ويهتم بها دون أن يتدخل في طبيعتها وشكلِ عيشها... وفي كل الأماكن مواضعُ للماء والزرع للطيور.. عناصر يعتبرها جزءا جوهريا من حياته ومن سلالته الباقية"
- تفاعل يبلغ منتهاه وقمتَه حين تصل الرواية إلى ما أشرنا إليه أعلاه من "أنسنة البيئة وبيئئة الإنسان"، وحين تمنح للكائنات غير البشرية صفات إنسانية، يحكي موسى: "خرجت من البيت... إلى الخلاء أفرش شوقي الساخن للهواء وقد بات خفيفا وحنونا، أجوب الفدان.. خلفي سوسو صامتة ومطمئنة. وقفت طويلا عند دوالي العنب التي تتشابك أوراقها وتتدلى عناقيدها وهي تنمو حالمة، تهفو إلى السواد التام... ومن بعيد كان صوت الحمام قد ردد شجنا ولطائف وودا وعتابا... جبوح النحل صامتة في نومها العسلي...". في مقابل هذا الصفاء والانشراح كثيرا ما ذرفت عينا سوسو دموعا ساخنة تأثرا وتعاطفا مع موقف إنساني حزين يعيشه الزناتي أو الشخصيات الآدمية الأخرى.
وبموازاة هذا "السلوك الإنساني" للكائنات غير البشرية، ستستعير الكائنات البشرية (الراعي، على المسكينى...) "لغة وسلوك الحيوان" (هوهوة، وعوعوة الكلاب، نهيق الحمار، وحركاتهما) لإطلاق صرخات خلال الرقص والغناء والتحرر من نيران ماض مليئ بالانكسارات، وجروح الحياة وغدر الأهل والأقارب، وربما في ذلك تعبيرٌ عن عجز الإنسان عن إيجاد لغة تعبر عن الانفعالات المختلفة للطبيعة البشرية (والتي قد يتقاطع فيها مع باقي كائنات الكون)
- الوعي بالتحولات الجسيمة التي تطال الفضاءات الطبيعية خاصة القرى، وتؤثر سلبا على علاقة الإنسان ببيئته بكل مكوناتها، ويتضح ذلك في حالة الرعاة بالبادية والذين شغلهم الراديو ثم الهواتف الذكية عن عالم كان مليئا بالخبرات والمعارف والمتع المرتبطة بالحيوان ومختلف الكائنات، يقول السارد: "فقد الرعاة، ممن مستهم ريح قربهم من المدينة، كلابهم وأغانيهم ولعبَهم وصبرَهم. كذلك ضيعت الدواوير، التي تطل على المدينة، روحها البدوية، وتحولت إلى بؤر معقدة، وملاجئ بلا هوية فاقدة أي انتماء، إلا من اخشوشن وأدرك التحولات بعقل فطن" الذات الساعية لترميم انكساراتهايتمظهر حضور الذات فنيا في رواية "خط الزناتي" من خلال تقنيات تيار الوعي، وأقصد هنا الحكي بضمير المتكلم، استبطان الذات، المونولوغات والتذكر والبوح والاعتراف، فنكون بذلك أمام:
- ذات في حاجة لتأمل ذاتها، للعودة لدواخلها من أجل النظر في أعماقها، ولقاء جوهرها، وما حضور البئر والمرآة، والخَلوة، وحتى الحيوان في هذا النص إلا لتعميق هذه الدلالة، فكلام الكلبة سوسو لم يكن في لحظات عديدة إلا الصوت الداخلي لموسى الزناتي، والنظر في المرآة لملاقاة الطفل "الذي كانه"، لم يكن إلا حفرا في أعماق هذه الذات، وبحثا عن جوهرها. وحتى اختيار موسى في فترة من العمر العودة إلى البادية، بعد أن أدرك "أن مصارعةَ القدر لعنةٌ لا ينقطع أذاها"، كان للقاء الذات والابتعاد بها عن كل ما يفرغها من حقيقتها، يقول موسى الزناتي: "كلما شعرت بضيق واختلاط المشاعر في نفسي، أمعنت في حركة النجوم بالحساب والنظر، فأتوضأ وأنزل البئر... فأقضي ثلاث ساعات أو أربع، بعينين مغمضتين، مانعا نفسي من التفكير في أي شيء... ساعات من تفريغ الذهن والنفس من كل ما علق بهما، وأخفى جوهرهما"
- ذات تطرح أسئلة الزمن بثنائياته المتضادة والإشكالية، والوجود الإنساني وتعقيداته، والطبيعة البشرية وشوائبها، دون أن تنتظر إجابات، لذلك جاءت الأسئلة في شكل تأملات وتوقعات وأحلام وتطلعات (ماذا لو؟) كما أنها كانت بصيغ عامة وشمولية أكثر منها مرتبطة بواقع محدد، وهذا ما جعل هذه الذات تتعالى وتتسامى على الخصوصية والاختلافات والاعتبارات الضيقة (الحفل يشارك فيه الراعي إلى جانب مالك الأرض، المتعلم وغير المتعلم، المقيم والعابر، الصاحب وغيره ...)، ورغم وجود إشارات للجفاف وغلاء الأسعار ومعضلات الهجرة، وبقايا معارك (أو ما رشح من هذه المعارك) إلا أن الواقع والمجتمع وقضاياه، وما يرتبط بها من شعارات سياسية وخطابات إيديولوجية تكاد تغيب، في هذه الرواية، أو تتوارى لتترك مساحات لذوات ترك الزمن أثر جبروته عليها، هي ذوات تسعى إلى "ترميم انكساراتها"، ولا يستطيع إلا فضاء مثل فضاء البادية، وخلاء مثل فدان العنب، أن يحتضنها جميعَها ويضمد جراحها ونقصانها وانكساراتها، ويحتضن لحظات وجدانية وروحية يخلقها جو الرقص، وغناء شعبي، تمتزج فيه الابتهالات إلى الله بالتغزل في المحبوبة، وتحتفي كلماته بالحياة تماما كما تذكّر بالموت.
سلمى براهمة
المغرب
تعليقات
إرسال تعليق