العودة من ماء الحياة / بقلم الكاتب والروائي والشاعر أحمد عزيز الدين احمد.
العودة من ماء الحياة
في البدء كانت الكلمة ... انتشروا فتطايرت الأرواح بجناح الحياة.
خرجت الأرواح من قبو مظلم كظلمة القبور تبحث عن النجاة تملأ بقاع الأرض تسكنها الحياة لا أنيس ولا اتحاد ولا عمل لتلك النفوس الثائرة فوق الأديم، لكنها كانت تعلم هويتها ورحلتها ونهايتها في سرداب العيش المكتوب على ظلمة القبو الذي خرجت منه منذ لحظات، ولكنها كانت تجهل الطريق إلى تلك النهاية المحتوم، ومع شعاع النور البارق مع أول فجر لها كان الطريق.
أمتد الجسر في أعين الأرواح بين القبو وبوابة النجاة إلى ما لا نهاية، فمنهم من اعتلى الجسر، ومنهم من تاه في معترك التنافس في صراع البحث والتنقيب بين روافد شعاع النور، رحلت كل الأرواح واستقل الجسر قليلاً من تلك الأنفس تتكالب فيما بينها لتقسم ما بين صارع ومصارع للوصول إلى سقف النهاية.
انطلقت بعض الأرواح على جسر الحياة تصارع بعضها بعضاً، قد حدد موعد لبعض تلك الارواح المتشابهة في الخلقة، ولكنها مختلفة في الغاية والوسيلة لبلوغ الهدف المنشود، فكان غروب شمس ذلك اليوم هو أذان بفنائها إن لم تدلف إلى باب النهاية قبل الغروب، ولكن كانت تشغلهم الصراعات الناشبة بينهم وبين الأرواح التي لم يحدد لها موعد للوصول، فكانت غايتهم صراع تلك الأرواح على جسر الوصول دون الالتفات إلى منشودهم الأسمى وهو الوصول قبل الغروب تحاول عرقلتهم والقضاء عليهم ونهش اجسادهم، ولكن تلك الأرواح كانت تعرف غايتهم المنشودة وطريقهم فوق الجسر، تتفادي الضربة تلو الضربة، تهرب يمنة ويساراً، وكلما سقطت روح من تلك الأرواح الشريرة تنفسوا الصعداء وسكنت في مسيرتها وغايتها المنشودة إلى بوابة الحياة.
ظل الوضع بين المد والجزر في معترك الطريق حتى دنت الشمس من الغروب، ففاقت تلك الأرواح الشرير لغايتها الأسمى تنتفض لتصارع الركض على ذلك الجسر الممدود وتحاول جاهدة أن تسبق لتصل قبل غروب شمس ذلك اليوم تاركة الصراع المحتدم قبل قليل، ولكن هيهات لها، فقد انشغلت بصراع بعضها بعضاً وتدحرجت ساقطة على جسر الوصول لتذوب مع آخر شعاع ضوء لشمس اليوم المنشود، ولم ينج منها إلا القليل مع تلك الأرواح التي لم يحدد لها غروب أو شروق ليصل إلى بوابة الحياة عدد قليل يكاد أن يعد على أصابع اليد الواحدة من بين تلك الأرواح التي خرجت من القبو المظلم في بداية الانتشار على أديم الأرض وبأمر الكلمة انتشروا.
دلفت الارواح المتبقية التي وصلت إلى بوابة النجاة فشعرت تلك الأرواح بسكينة ونعيم وكأنها لم تتصارع ولم تركض حتى آخر ساعة من نهار... ولكن ماذا بعد؟
رجعت قليلاً أدراجي إلى الوراء بضع خطوات قلائل داخل تلك البوابة شاهقة الارتفاع عريضة المصارع وخاطبت تلك الأرواح قائلاً: أنتم الباقون من البشر، فحافظوا على أنفسكم، ونظرت أسفل مني بين الجسر وتلك البوابة وقد قذف في روعي ألا عودة إلى ذلك الجسر مرة أخرى، فرأيت فراغاً ضيقاً بين الجسر وتلك البوابة الشاقة... بوابة الحياة، نظرت فرأيت نوراً في الأسفل يصدر من تلك الفتحة الضيقة بعرض البوابة بينها وبين الجسر فخال إلي أن أنزل إلى ذلك النور، وتبعتني تلك الأرواح تنزل تباعاً من تلك الفوهة الضيقة... فكيف كان نزولي؟
طرحت على لوح لغلاف كتاب باللون البرتقالي المشبع بقليل من الحمرة فيجعله يميل إلى اللون البني في وسطه وفاتح في أطرافه، ولكنه كان كلوح زجاج مصقول تتدلى عليه قطرات ماء في خطوط منتظمة كأنها تجمعت من رذاذ المطر المنسكب على نافذة زجاجية في الشتاء، وما هي إلا لحظات وأنا ملتصق بذلك اللوح البديع والماء الذي يسيل في خطوط متعرجة لكنها ثابتة وليس به موضع لأتمسك به، ولكنني ثابت فوقه قد تسطح في وضع أفقي لتلامس قدماي الأرض، ووجدت نفسي قد تم غسلي من اخمص قدمي حتى منبت رأسي بماء أشبه بالزلال وكانه مصفى، فتلفت لأجد بوابة أخرى توصلني إلى سوق، وتلك الأنفس من ورائي أيضاً، ولكن عندما دخلنا انتشرت تلك الأرواح مرة أخرى... قد أخذ كل منها موضعه وكأنه يعرفه قبل ذلك، وأخذت أنا مساري متجولاً فنظرت أعلى مني بجوار الباب الذي دلفنا منه منذ قليل إلى أحد الأشخاص الذي دخل معنا فألقي إلي صاحبي بقطعة حلوى أظنها شكولاتة وألقى إليه أيضاً بقطعة أخرى مغلفة، ولكن عندما فتحتها لم أجدها تشبه القطعة الأخرى فتذوقها... يا لجمال طعمها !... شيء لم أتذوق مثله في الحياة، وغاب عني صاحبي الذي سار معي في طريق ذلك السوق البدائي إلى وجهة غير معلومة، ولكنه خيل لي أن أحدهم قد وصف لي ذلك السوق قبل ذلك وفكر ماذا عساه قد شرح لي؟ فكانت المفاجأة.
لقد وصف لي كل ذلك حتى أقوالي التي سوف أقولها وأفعالي التي سوف أفعلها في ذلك السوق... نعم تذكرت كل ذلك، لقد تحدثت إليه في ذلك قبل الخروج من القبو وكأنه حلم يمر بي في الزمان والمكان، فدلفت إلى إحدى الحوانيت لأشتري علاقة من خوص النخيل وسعفه فقال لي صاحب الحانوت إنها بأربعة عشر جنيهاً، ولكن لم تعجبني صناعتها، ولم يكن معي أموال أيضاً في ذلك المكان والزمان، فآثرت الصمت والخروج من ذلك الحانوت، وجلس صاحب الحانوت في موضعه وهو يتمتم بكلمات لا أفهمها، ولم أهتم بما قال، وواصلت السير إلى حانوت آخر في نهاية السوق.
نعم لقد تم وصفه لي بكل تأكيد... عندما تدخل سوف تجد سريراً مصنوعاً من سعف النخيل في ركن الحانوت فاصعد من خلاله إلى أعلى الحانوت، ولكن من النظرة الأولى لذلك السرير المصنوع من سعف النخيل في ركن الحانوت لم يعجبني، لقد وجدته بالياً متناثرة أشلاؤه يمنة ويساراً، لا يستطيع أن يقلني، فنظرت يمنة ويساراً فوجدت سريراً من لوح خشبي محمل على أربعة أحجار صلبة البنية مطلية باللون البني الذي عادة ما تطلى به الأخشاب المصنعة على شاكلته، فجلست عليه، وما هي إلا لحظات حتى وجدت من كانت تصف لي المكان في القبو قبل الانتشار تجلس بجانبي وتحادثني... فماذا قالت لي؟
تبسمت وأومأت لي بأنها تلك هي البداية لا النهاية، وتلك الطريق المنشودة والصراع المحتوم والبوابات المرصودة وطهور الماء والسوق المنصوبة والرزق الذي أكلت منه على يد أحدهم إلا تمهيد لذلك اللقاء بيننا على ذلك السرير الخشبي لنكمل دورة الحياة من جديد، فوجدتني دون أن أشعر اعاشرها معاشرة الأزواج لتبدأ الحياة من جديد.
بقلم الكاتب والروائي والشاعر
احمد عزيز الدين احمد
تعليقات
إرسال تعليق