برنامج منبر حوارات الرؤى / سلسلة حوارات مع نخبة المثقفات والمثقفين العرب / إعداد وإدارة وحوار الأستاذ عبد الرحمن بوطيب مدير عام مؤسس مجموعة مجلات الرؤى العربية للإبداع / الحلقة الأولى تستضيف الأديبة التونسية نجلاء المزي

برنامج

منبر حوارات الرؤى

سلسلة حوارات مع نخبة المثقفات والمثقفين العرب

إعداد وإدارة وحوار الأستاذ عبد الرحمن بوطيب

مدير عام مؤسس مجموعة مجلات الرؤى العربية للإبداع والنقد

————————

الحلقة الأولى تستضيف الأديبة التونسية نجلاء المزي

Najla Mezzi

————————

= تقديم:

أديبة متعددة العطاءات... متحت عناصر ثقافتها الوازنة من معين ثرّ... فضاء اجتماعي مؤهل لبناء شخصية سيدة مثقفة، متواضعة، مجدة في البحث عن كل جديد يغني مسيرتها الموفقة... أفراد أسرة وعائلة مثقفة... فضاء جامعي وثقافي عام في بلد عربي معطاء.

شاعرة رهيفة المشاعر، عميقة الرؤى، ملتزمة بالكلمة الشاعرة الناطقة حقاً في زمن انحناء عديد حروف.

ناقدة حذرة، لا تلقي الكلام على عواهنه، تستأنس بمناهج نقدية تراها مناسبة لمقاربة الإبداع في تنوعه واختلاف رسائله.

أستاذة لغة عربية تحترم الضاد وتحرص على التعبير بسليم قواعدها.

إنسانة طيبة... نجلاء المزي.

————————

= بطاقة تعريف... سيرة ذاتية:

نجلاء المزي؛

ناقدة وأديبة تونسية.

خريجة كلية الآداب بمنوبة تونس سنة 1996.

متحصلة على الإجازة في اللغة العربية وآدابها.

مدرسة لغة عربية بالمعاهد الثانوية. نشرت العديد من الدراسات النقدية في مجلة" دوائر ضوء" التي أشرف عليها الكاتب المغربي المبدع "حسن مستعد" رحمه الله.

تقدم منذ سنوات برنامجاً نقدياً يتجول بين الأندية الثقافية: "قراءة في أوراق شاعر"، قدم الكثير من الورقات النقدية تنقيباً في قصائد لشعراء من المشرق والمغرب العربي (قصائد عمودية، وقصائد نثرية) باعتماد المناهج الحديثة، دون التنكر لما في التراث، تعمل على جمعها في كتاب يحمل نفس العنوان.

من أهم أعمالها دراسة نقدية لديوان الشاعر المغربي د. أحمد بياض، وهو من رواد تحديث قصيدة النثر، "ديوان سفر أيوب".

زوجة شاعر، من أسرة محافظة محبة للأدب شعراً ونثراً، أم لابنين مختصين في الإعلاميات.

————————

= مسار حوار:

ـــ ترحيب مدير البرنامج:

تتشرف مجموعة مجلات الرؤى العربية للإبداع والنقد باستضافتك أستاذة نجلاء المزي المحترمة، وبمناسبة حضورك الوازن نتوجه بالتحية الثقافية العربية للإخوة التونسيين الأشقاء.

منك كلمة أولى سيدتي الفاضلة.

+ أ. نجلاء المزي... كلمة أولى:

ـــ أسعد الله أوقاتكم بكل خير أعضاء مجموعة مجلات الرؤى العربية للإبداع والنقد، ولمحاوري الأستاذ "عبد الرحمن بوطيب" رئيس هذه المنارة الأدبية الرائدة المشعة كل المودة وفائق التقدير. 


س 1/ الأستاذة نجلاء المزي، أديبة وناقدة...

وَسْمٌ تعييني تصنيفي نوعي يحيل إلى تعدد اهتمامات؛

+ ألف: ما العوامل الاجتماعية التي دعمت التوجه الثقافي للأستاذة نجلاء في زمن قد تتكرس فيه النظرة التقليدية للمرأة باعتبارها ربة بيت... لا أديبة، ولا ناقدة؟

ج 1/

= ألف: العوامل الاجتماعية:

ـ قبل الإجابة عن السؤال الأول بذكر العوامل الاجتماعية الداعمة توجهي الثقافي، أحب أن أعرّج على تقديمي باعتباري أديبة وناقدة لأوضح أن كتاباتي في القصة القصيرة والشعر تظل في نظري مجردّ محاولات، ولئن حظيت بالتقدير والتتويج كلما شاركت ببعضها، ولكنها لم تبلغ من التراكم والنضج ما يجعلني جديرة بلقب أديبة، فما زال الكثير لأتعلمه ولأجربه، وكما قال الشاعر التركي ناظم حكمت "أجمل ما سأقوله ما لم أقله بعد".

ـ وأما النقد، فقد شغل كل وقتي وحاز جلّ اهتمامي، وأظن أنني رميت فيه بسهم، إذ نالت أعمالي الكثير من الاحتفاء والمتابعة، على أني أعمل على نحت كياني الإبداعي وتجويد ما أنجز بتدقيق مقارباتي.

ـ أعود للإجابة عن السؤال الأول الذي يشي بالصعوبات التي تواجهها المرأة المبدعة في مجتمع شرقي يحصر دورها: أماً، وزوجة.

إنّي أدين لكثير من العوامل دعمت مسيرتي:

ـ أهمها شخصية أبي، فهذا المناضل الذي أدرك أهمية الحرية، وعظم قيمة العلم، لم يفتأ يدفعنا نحن بناته السبع لننهل من جداول المعرفة، دون وضع سطور حمراء حول اختياراتنا.

ولا شك أن عشقه العربيةَ، وصدى ترتيله آيات القرآن، وحواراتنا حول السياسة والدين ومختلف مشارب الحياة قد أثر في تكويني ودفعني نحو التساؤل والبحث، وهي أدوات النقد الأولى.

ـ كما كان لشخصية عمي، أستاذ المسرح، ولزوجته "للا فوزية"، وهي ناقدة سينمائية ومسرحية وصحفية ذات ريشة مائزة بصمةٌ في تكويني، إذ كانت زياراتهما لنا في قرية الصفصاف كمزن تحمل الرواء لنفسي المتعطشة، هي مناسبة ليرويا غلّتي بإطلاعي على سير أدباء عظام مثل لوركا، وبابلو نيرودا، وناظم حكمت... وبما يهدياني من كتب كانت نافذتي الأولى للإبحار في عالم الأدب الساحر وإشباع نهمي لقراءة الكتب الأدبية خاصة.

ـ ولعل أهم من دعم توجهي وتنبه لملكة النقد عندي زوجي، وهو شاعر، فكنت أعلق على أشعاره بالوقوف على مواطن الإجادة والوهن فيها بعد تحليل وتعليل، فنصحني بالتفرغ للنقد لما لمسه فِيَّ من تمكن وموهبة، وهو أول من يقيم أعمالي دائماً.

إذاً، لم تكن بيئتي تستنكر ولوجَ المرأة عالم الكتابة، بل كانت تحتفي بذلك، على أن الدرب لم يخل من مثبطات.

+ باء: ما العوامل الثقافية الداعمة هذا التخصصَ المزدوج في حياة الأستاذة نجلاء بين إبداع ونقد؟

= باء: العوامل الثقافية:

ـ قد يكون السبب الدافع والداعم لتوجهي الثقافي هو التخصص في دراسة اللغة العربية، فأنا خريجة جامعة الآداب بمنوبة، بما تعنيه هذه المنارة من عطاء وزخم ثقافي، وبما تضمه من أسماء دكاترة عظام كانت لهم أيادي بيضاء في تكويننا، إضافة لثراء الساحة الثقافية في التسعينات بما يصدر من مجلات أدبية مختصة في الشأن الثقافي: "مجلة الحياة الثقافية"، و"حوليات جامعية"، وروايات وأعمال لبت حب الاطلاع وغذت بذرة الإبداع فينا.

فلا شك أن تنوع الثقافة المتوفرة حولي، زيادة على رغبتي الجامحة في الاغتراف من كل الجداول والألوان، قد أفضيا إلى تنوع في الإبداع، ولو بدرجات متفاوتة. 


س 2/ الانتماء إلى فضاء الشعر، إبداعاً، لا يأتي من فراغ؛

ـــ لماذا ارتماء الأديبة نجلاء في أحضان الشعر؟

ج 2/

ـ أكد أبو حيان التوحيدي في مفاضلته بين الأمم في "الإمتاع والمؤانسة" أن (للعرب الخطابة والبيان)، فكأن حب الشعر "قدر العربي"، إنه في جيناته يختلط بأنفاسه وتفيض به نفسه ليصور آماله وأشجانه وكل ما يضطرب به وجدانه من مشاعر وما يطرق عقله من رؤى، فإن كنت شغفت بالشعر حباً، فلا يد لي في ذلك، إنه ضرب من الإلهام... من الامتلاء والإفراغ نتيجة تفاعل النفس مع مظاهر الجمال، أو بسبب ما تختبره من مشاعر مختلفة...

إن الشعر يخترقنا ثم ينساب كزخات المطر ليتشكل على البياض تجربة فريدة... بوحاً شفيفاً، لسبب ولغير سبب .


س 3/ وهذا النقد... معالم تجربة عميقة؛

ـ لماذا هذا التوجه الكتابي الواقف على شاطئ جاف غيرِ شاطئ الإبداع الندي؟

ج 3/

ـ من يتخصص في دراسة اللغة العربية وآدابها، ويتبحر في مدونتها الثرية، ثم يطلع على المناهج النقدية الحديثة يصعب أن يظل على الربوة ويكتفي بالمتابعة، إذ تتراكم عنده المعرفة، وتتكون له المهارة نتيجة التعامل الدائم مع النصوص تحليلاً وشرحاً، طالباً كان أم مربياً، فإذا انضاف إلى ذلك الشغف والرغبة أصبح النقد المتعة الكبرى.

وقد مكنني هذا الفضاء الرقمي الذي يعج بالأعمال الأدبية من أن أسجل حضوري فأشد الانتباه وأحظى بالدعم والتشجيع، وقد خصني الكاتب المغربي "حسن مستعد" رحمه الله وطيب ثراه بركن لتقديم أعمالي في مجلته الرائدة "دوائر ضوء"، ثم كانت الأمسيات النقدية "قراءة في أوراق شاعر" التي أنشرها في منتديات كثيرة.

على أن لِيَ تحفظاً على اعتبار النقد شاطئاً جافاً، بل هو إبحار في النصوص لا يخلو من متعة لما نستدعيه عند قراءة العمل الإبداعي من معارف، ولكن لا شك أن السؤال يومئ لما بلغته بعض المناهج النقدية من مغالاة في إقصائها العناصرَ المنتجة للإبداع، فصار النقد جافاً نخبوياً يقفز على الواقع ويشيّء الأدب. 


س 4/ التعدد... إبداع ونقد؛

ـــ نوع من تحدي إكراهات حضور... أم طاقة ذاتية خصبة قادرة على العطاء بألوان شتى؟

ج 4/

ـ التعدد يعكس شخصيتي الْمُحِبَّةَ التنويعَ، الراغبةَ في التحدي، فكأن شاعر الخضراء أبا القاسم الشابي قد نفخ في إهابنا من روحه الثائرة في قوله:

(إذا ما طمحت إلى غاية

ركبت المنى ونسيت الحذر)

فكانت البداية مع كتابة الخاطرة والقصة والشعر تلبيةً للعاطفة المحبة للأدب، ثم كان النقد ثمرة الدراسة والتخصص ومعاشرة النصوص والرغبة في فك شيفراتها وبلوغ معانيها الخفية والوقوف على جماليتها إرواءً للعقل.

على أن حواء بإبداعها تسعى، دون شك، لتأكيد حضورها ومساواتها لآدم إلغاءً للنظرة الدونية، وإنصافاً لجهودها المثمرة، فالكتابة إثبات وجود، وتسجيل موقف، وتخفف من أوجاع الحياة، ورسم كون تتساوى فيه الفرص. 


س 5/ التجربة الشعرية الرصينة تنتهي إلى رؤية للعالم؛

ـــ ما رؤية الشاعرة نجلاء للعالم... كيف ترسم أفق عالم عطاء؟

ج 5/

ـ كل شاعر عظيم يبني بإبداعه عالمه الخاص، فإذا ولجت عالم "كافكا" مثلاً ملأك إحباطاً ويأساً وغربة، وإذا دلفت إلى عالم "الشابي" فستأخذك الحماسة لنصرة الحق ولهدم الظلم وأركانه، وستتغنى معه بالحرية وحب الوطن، وأما إذا قرأت لابن عربي والحلاج ورابعة العدوية فستحلق في عوالم روحية وتعرج في مقامات نورانية.

ولا شك أن ما أتاحه لنا هؤلاء العظماء من تجاربهم الثرية قد أثّر في رؤيتنا للعالم في ما نكتب من إجلال لقيم الجمال والإخاء والسلام، فالعالم الذي أرسمه بحروفي فيه انتصار للحق، ودفاع عن المهمشين والمظلومين، وإنصاف للقضايا العادلة.

 

س 6/ التعبير بقصيدة النثر مغامرة شعرية في زمن تدافع بين أشكال من القصيدة العربية قد لا ترتاح لبعضها؛

+ ألف: لماذا قصيدة النثر في شعر الشاعرة نجلاء؟

+ باء: رأي الشاعرة نجلاء في القصيدة الموزونة، وقصيدة التفعيلة؟

ج 6/

= قصيدة النثر:

ـ يبدو اختياري لقصيدة النثر أمراً طبيعياً، تحريراً للمعنى من القيود الشكلية، وتحديثاً للشعر، فالشاعر، وهو يكتب قصيدة نثر، لن يكون سجين بنية جاهزة (الوزن، القافية، الروي...)، بل سيكون شغله الشاغل هو تجسيد تجربته الشعرية / الشعورية كما اختبرها، وهكذا تطول الأسطر الشعرية وتقصر، ويغدو تشكلها ذا مغزى، وأكثر وفاء للمعنى، كما أن هذه القصيدة مختبر إبداع، فالشاعر فيها — كما ينعته أنسي الحاج — "حِرَفِيُّ كلام" يبتدع روابط جديدة بين الألفاظ، مما يولد صوراً جديدة بكراً لم تستنفذ جمالها الأقلام، زيادة على ذلك انفتاح قصيدة النثر على روافد كثيرة من رموز وقصص ديني وأساطير... مما جعلها حمّالةَ قراءات متنوعة، ولعل ذلك ما عنته الناقدة الفرنسية "سوزان برنار" في تعريفها قصيدةَ النثر بأنها "قصيدة نثر موجزة بما فيه الكفاية.... خلق حر... إيحاءات لا نهائية".

قصيدة النثر قصيدة قلقة، متمردة، تعكس ما يعيشه العربي من فوضى عارمة، وتجسد آلامه وآماله دون قيود، لكل هذه الأسباب بدت قصيدة النثر قصيدةً واعدة وأغرتني بالمحاولة، إلا أن الغموض الذي غرق فيه الكثير من الشعراء حَدَّ الإبهام قد جعل تلك القصائد منغلقة على ذاتها، وفي مرمى النقد اللاذع.

وإني لا أعني الغموضَ الشفيفَ الذي يغري بالبحث وبالقراءة، وهو ما عبر عنه أدونيس في قوله: "الغموض حيث أحيا، الوضوح حيث أموت".

= القصيدة العمودية:

ـ إن موقفي من قصيدة النثر لا يناقض إعجابي بالقصيدة العمودية، إنها الجذور، وهي المنهل الأول الذي شنف أسماعنا وأطربنا ببديع ما نظم الشعراء القدامى من شعر كان ملائماً لزمانهم، معبراً عن مشاغلهم، حافظاً أمجادَهم، حتى قيل "الشعر ديوان العرب"، ولي بعض القصائد الموزونة، ولكنها من باب المحاولات والتنويع، ولئن وجد البعض ضالته في هذا النوع ففي ذلك تنويع وإثراء.

= قصيدة التفعيلة:

- كانت بوابة التجديد، لم تتنكر للجذور، فأبقت على الوزن، مع تحرر من عمود الشعر، ونوعت في الإيقاع، ثم انفتحت على الحداثة بتأثر روادها بالشعر الغربي وتنويعهم المناهل، فكانت تجديداً في رحم القديم، ولا شك أن هذا التمازج قد ولد طرافةً وجدةً ورسوخَ قَدم، وهذا ما نلمسه في أشعار السياب ونازك الملائكة... ودرويش.

 

س 7/ صوت قصيدة النثر الحداثية يرتفع؛

ـــ موقف الناقدة نجلاء من هذه القصيدة... قصيدة المرحلة، قصيدة الدهشة كما يصفها من يروجها؟

ج 7/

ـ أرى أني أجبت عن هذا السؤال بإبداء رأيي في قصيدة النثر، فهي قصيدة اللحظة، قصيدة التجربة، ورغم ما فيها من فوضى إلا أنها تعكس واقع العربي الحائر الباحث الراغب في الخروج من جبة الماضي، فالسيرورة التاريخية تفترض التغيير، وقد استطاعت "ق ن ح" فرضَ وجودها، لأن التغييرَ علامة حياة، والسكونَ دليل موت.

وإن كان رفض قصيدة النثر الحداثية لتنكرها للقصيدة العمودية بثورتها على الوزن، فجردت بذلك من الشاعرية، فقد سبق أن أكد الناقد العربي اللمعة عبد القاهر الجرجاني في "دلائل الإعجاز" أن الوزن ليس هو ما يجعل الكلام شعراً، بل يمكن للكلام أن يكون شعراً بغير وزن، كما كان مؤيداً للغموض في الشعر ـــ وهو مما يؤاخذ على "ق ن ح" ـــ بقوله: "إِنَّ تَرْكَ الذِّكْرِ والصمت عن الإفادة أزيدُ من الإفادة... وأتمّ ما تكون بياناً إذا لم تبن".

إن احتضان هذا المنجز الشعري "ق ن ح" والسعي إلى تأصيله في جذوره العربية قد يكون السبيل لتجاوز محاربته ورفض مشروعيته.

 

س 8/ الشعر خطاب لا يمكن القبض على شعريته بسهولة إلا من مدخل نقدي مواز؛

ـــ دور النقد في تشكل تجربة الشاعرة نجلاء الشعرية.

ج 8/

ـ الشعر إشراقة حرف، لحظة تجلٍّ، ضرب من الإلهام، فيه ينزاح اللفظ عن معناه المتداول ليشع بمعاني وليدة تبهر القارئ، لما فيها من الجدة والابتكار، ولما يصطخب فيها من دلالات،

فقد نكتب الشعر لأي انفعال وجداني دون أن تكون لنا صلة بالنقد.

على أنه أحياناً قد نقع أسارى بعض النصوص بعد طول انشغال بها، ومعاشرة لمعانيها، ولا فكاك منها إلا بالكتابة، فيكون ذلك سبباً في ولادة نص جديد، هذا مثلاً ما حدث بعد تحليلي قصيدة مناجاة للشاعر السوري "خالد إبراهيم" العروة الوثقى، وبعد تهويم في عالم المتصوفة وجدتني أكتبت "نشيد الوجود"، وكنت نزلتها بمجلة الرؤى العربية للإبداع والنقد ونالت الاستحسان.

إذاً، فذات المبدع ليست مقسمة، وكل جزء منغلق على ذاته، بل هي في تفاعل دائم، فلا شك أن الشاعرة تتأثر بمعارف الناقدة، والعكس صحيح.

 

س 9/ موقف الناقدة نجلاء من النقد الانطباعي، ومن النقد المنهجي.

ج 9/

ـ النقد الانطباعي هو الحكم على الأثر المدروس حكماً ذاتياً انفعالياً فطرياً، دون إخضاعه للتحليل والتعليل، ودون دراسته بتروٍّ.

وكذلك كان النقد في بداياته في الجاهلية وفي صدر الإسلام، فتجد أن النابغة الذبياني، مثلاً، في مفاضلته بين أشعار الخنساء وأشعار حسان بن ثابت ينتهي إلى الجزم بأن الخنساء "أشعر الإنس والجن"، وهو حكم إطلاقي دافعه الإعجاب بجزئية ما، وهو بذلك بعيد عن الموضوعية والدقة، وهذا النقد في رأيي لا يقيم العمل تقييماً صحيحاً لعدم تجرده من نوازع الهوى، ولا يفيد المبدع بالإشارة لمواطن الإبداع أو الوهن في نصه ليرتقي إنتاجه الإبداعي، كما لا يستفيد منه القارئ، فإنما هي أحكام جوفاء متسرعة.

في حين أن النقد المنهجي ـــ كما يوحي اسمه ـــ هو نقد علمي موضوعي دقيق، يمر بكل عتبات النص، ولا يغفل شاردة ولا واردة من إيقاع ومبنى ومعنى ورموز وأساليب... فيدرس العمل، ويظهر مواطن الجمال أو الرداءة فيه بقراءة دقيقة معللة.

وهذا النقد يعود بالفائدة على الجميع، إذ يكسب الناقد الخبرة بتوظيف مناهجه النقدية الحديثة، ويورثه المتعة، فعمله الخلاق بعث للنص من جديد، كما يعود بالفائدة على المبدع الذي يستفيد من الملاحظات الدقيقة فيجوّد أعماله، ويغنم القارئ لأنه يطمئن لمقاربة الناقد الموضوعية، ويتعلم منها.

 

س 10/ المنهج النقدي / المناهج النقدية التي ترتاح الناقدة نجلاء إلى الاشتغال بها على أعمال إبداعية؟

ج 10/

ـ تنوعت المناهج النقدية الحديثة، فبعضها مناهج سياقية: كالمنهج التاريخي، والاجتماعي والنفسي... وبعضها مناهج نقدية نسقية: كالبنيوية، والتفكيكية...

ولئن سعت المناهج السياقية لدراسة النص من خارجه بتغييب الأثر ذاته، فقد انكبت المناهج النسقية على النص وغيبت سواه، حتى أعلن بعضهم (رولان بارت) موت المؤلف.

وأرى أنه رغم انبهارنا بهذه المناهج الحديثة التي جعلت النقد أكثر موضوعية وحياداً، إلا أن المغالاة في توظيف بعضها، وإقصاء آخر، قد جعل النقد جافاً مغيباً للواقع الذي ولد فيه الأثر نسفاً لدور المبدع وتشييئاً للفعل الإبداعي.

ومن الحكمة الاستفادة من إيجابيات هذه المناهج دون الوقوع في شططها، والحال أنها باتت تراجع بعض ما انتهت إليه.

فأنا، ولئن انطلقت من تحليل النص بدراسته من الداخل إيقاعاً ومعجماً وبنية صور... فإن ذلك يكون منطلقي لربطه بظروفه التاريخية والثقافية، فتجدني أمازج بين مناهج مختلفة لأقف على مظاهر الإبداع والجودة والطرافة في النص.

 

س 11/ أي النوعين النقديين مناسب للمرحلة العربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحضارية العربية اليوم... مناهج تاريخية بنيوية، أم مناهج شكلانية؟

ج 11/

ـ أرى أن المناهج النقدية التاريخية البنيوية أكثر ملاءمة للتعبير عن المرحلة العربية اليوم، سياسية واقتصادية وثقافية وحضارية، لأنها مناهج تربط العمل الأدبي بشروط إنتاجه الموضوعية... مناهج لا تتنكر للواقع، ولا تلغيه... مناهج تتعامل مع الأدب باعتباره مصوراً لصراع الإنسان مع أشكال الاستعباد.

في حين أن المناهج الشكلانية أفرطت في التنظيرات المجردة، وانحازت للنص، مع تغييب للكاتب وللقارئ، وهي مناهج تقفز على الواقع الذي أنتج ذلك العمل الإبداعي، وفي ذلك تشييء للفعل الإبداعي، وقتل له، لانبتاته عن الواقع وإغراقه في التجريد.


12/ قصيدة مختارة من إبداع الشاعرة نجلاء هدية منها لرواد الرؤى الكرام.

12/ القصيدة المختارة:

"مذكرات وردة"

لا هي تزهر

تلك الوردة

ولا يهادنها الحنين

من بين شقوق القلب

يتناسل الشوق المرير

لأحلام تتراءى

وتتخفى

كسراب لئيم

فلا أنت حرّ

أيها الفجر

ولا أنت أسير

منزلة البين بين

أرجوحة لا تستكين

بها تتلاعب الرياح

وأمواج السنين

تلك الوردة

أغواها الرحيل

ووأدها الأنين

لتزهر كان يكفي

من الغيث قطرة

القليل من الأمل

القليل... القليل.


13/ نص نقدي مختار من أعمال الناقدة نجلاء هدية منها لرواد الرؤى الكرام.

13/ النص النقدي المختار:

= قراءة في قصيدة من ديوان "سفر أيوب"، للشاعر المغربي الأستاذ "أحمد بياض".

من الباب الثالث الأخير / القصيدة الأخيرة.

= القصيدة:

"نشيد البقاء"

وأمشي

أقرأ الأناجيل

وهي تشيد

خيمة الألفاظ

كم من جرح سآوي

يتحداه الجسد

على غيمة الروح

مالي سواك

ولمن بعدي

طفلة الصحراء

وعلى صدر الأنفاس

دموع الحيارى

ووادي الغبار

ينشر التاريخ

هذا المساء

ستطفئ

علتي

وجودي

وداوود

سيهدي المزمار

إلى كهف النجوم

ستتوارث الأغصان

طقوس البرية

على فرشاة المغيب

ستزهر الشمس

وتفرز الجوارح

سمك الألفاظ

واليقين سهلا

على مزهرية الطريق

سأتبنى

سحر الشرق

قبل الخلود

ومن كان ختاما

سيعيدني

على هلال المصاحف.

= الشاعر بياض أحمد / المغرب.

= القراءة النقدية:

وأنت تقرأ قصائد الأستاذ أحمد بياض، لن تخشى من اجترار المعاني، ولا الوقوع في الرتابة، ذلك أنها أشبه بأنهار دائمة الفيض، كل قصيدة مكتملة بذاتها، مزدحمة بمعانيها، مكتظة بالصمت الصارخ.

ومنذ الوقوف على العتبات الأولى، تتبين انزياح هذه القصائد عن الإيقاع القديم إلى إيقاع المعنى، إذ يشكل الشاعر الصور عبر وعيه الخاص، وعليك أن تحسن تتبع الإشارات، وفكَّ الرموز، وتفكيك الصور، والنظر في المرجعيات لتهتدي إلى المعاني.

مغامرة خضتها مرّات، وكنت أظنني سأغدو أكثر مهارة ودربة في حلّ شيفرات القصيدة، لكنني أجدني أصاب بنفس الدهشة في كل مرّة، فهذه المفردات المألوفة صارت في نصه مبهرة، عميقة وكثيفة، تكشف قدرة الشاعر على الإبداع والتجدد، ويحضرني قول دوستويفسكي: "قد يكون في أعماق المرء مالا يمكن نبشه بالثرثرة، إياك أن تظن أنك عرفتني لمجرد أنني تحدثت إليك"، فمع كل قصيدة أجدني أبدأ من جديد، فهذا "أستاذ بارع في فن الكلام بغير كلام، فن الكلام بالصمت، وتصبح القصيدة أشبه برقعة الشطرنج تستدعي كل تفكيرك، علك تظفر ببعض خباياها، ولعلها تبوح لك ببعض أسرارها.

في هذه الورقة، نتناول بالتحليل القصيدة الأخيرة من الديوان، وهي تحت عنوان "نشيد البقاء"، هي القصيدة الثالثة من الباب الثالث من ديوان "سفر أيوب" للأستاذ أحمد بياض.

وكنا ذكرنا من قبل أن عنوان الديوان يحيل على الكتاب المقدس وعلى سفر يحمل نفس العنوان "سِفر أيوب"، وقد يكون عنوان قصيدتنا التي نتناول يشير بكلمته الأولى: "نشيد" إلى "سِفر نشيد الأناشيد"، وهو سِفر من أسفار التوراة والانجيل، وفيه وصف لعلاقة عاطفية وغزل بين رجل وامرأة.

ومن خلال حوارهما نتبين انتقالهما من مرحلة الغزل إلى مرحلة تحقيق الزواج، وهذا يتناسب مع المضاف إليه (البقاء)، إذ في ذلك إشارة لسبيل البقاء بمعناه الظاهر الأول "إنتاج المجتمع، والتوالد لاستمرار النوع البشري".

أما الشرح المعجمي فيفصح أن النشيد هو قصيدة شعرية، وإضافته إلى البقاء يجعله يحيل على دور الشعر في تخليد الذكر وقهر العدم كما في قول جبران:

(أعطني الناي وغن، فالغناء سر الوجود

وأنين الناي يبقى، بعد أن يفنى الوجود)

كما أن القصيدة هي محاولة وجود ثانية... وجود بإعادة رسم الكون من منظور الشاعر، وأياً كان المغزى، فإن العنوان صريح في التغني بالبقاء والحياة، ودحر للفناء والعدم.

الناظر للقصيدة يلاحظ منذ البدء اهتماماً بتوزيع الأسطر الشعرية، فقد قسمت إلى خمس وقفات، ولئن كانت الأربع الأولى قصيرة لا تتجاوز الأربعة أسطر، فإن الخامسة طويلة إذ امتدت على واحد وعشرين سطراً، وسنحاول البحث عن علة هذا التوزيع ودلالاته.

في بداية القصيدة يواصل أيوب السفر، ولكن عبر القراءة، وتحضر المرجعية الدينية، فيؤكد الشاعر أنها إحدى روافده في بناء القصيدة رغبة في العودة للنهل من المعين الأول مصدر الوحي والإلهام رمز الصفاء والنقاء:

(وأمشي

أقرأ الأناجيل

وهي تشيًد

خيمة الألفاظ)

هذه المرجعية الدينية "الأناجيل" قد تكون أيضاً رمزاً للقواعد الشكلية والمعنوية من أوزان وبحور وأحكام عروضية وأغراض، اكتسبت ضرباً من القداسة، وباتت تقيد الشعر، وتكبله، ولا تجعله قادراً على مجاراة متغيرات العصر وانفعالات النفس، في حين أن للغة إمكانات وقدرات يمكن استخدامها، ولعل هذا ما أكده الأستاذ بياض في إحدى تدويناته: "اللًغويون كعائق لا يستوعبون قيمة هذه القدرة والتي ليست متطفلة على اللغة، ولكن بتكلفة الشعور لا يقدرون هذا الأسلوب البديل الشامخ من معجم الرؤيا".

وهذا ما يفسر استخدام الاستفهام في مستهل الوقفة الثانية، والذي يعكس شجناً سيظلل معاني الوقفات: الثانية والثالثة والرابعة، فتتماهى معاناة الشاعر وغربته، بمعاناة أيوب وما كابده من محن تئن تحت وطأتها الجبال، ويزيد من الغنائية، التفكير في النهاية، والشعور بالعجز، والرغبة في تخليد الذكر، والبقاء بالنشيد، بتجديد الشعر:

(كم من جرح سآوي

يتحداه الجسد

على غيمة الروح)

لتنقلب هذه الغنائية إلى ضرب من الاستعطاف والتودد والتقرب من القصيدة :

(مالي سواك

ولمن بعدي

طفلة الصحراء)

هذا التودد يذكرنا بما وجدناه في نشيد الأناشيد من رغبة عاطفية جامحة ترنو للبقاء بالتزاوج، أما توجع الشاعر فبسبب تكبيل "طفلة الصحراء" التي كنّى بها على القصيدة ـــ بقيود شكلية ومعاني مهترئة ـــ فباتت مفرغة وخاوية، هذا التيه والفراغ أشار إليه في قصيدة "غيث الرمل" أيضاً: ( في حقل السراب تبحث عن روضة الرمل)

فشاعرنا مسكون بهاجس تجديد اللغة وتحرير الشعر من عقاله وإخراجه من قمقم (العروض، والغرض، والصور الجاهزة، والسطحية...) ليعبر عن هموم المحرومين، وعن الواقع المترع بالآلام.

ويشق التقابل الوقفة الرابعة، فيعكس التقابل بين غربة الشاعر وتهميش مشاغل المستضعفين، وبين هيمنة المتسلقين والفاسدين: (الغبار) على الواقع وكتابتهم للتاريخ:

(على صدر الأنفاس

دموع الحيارى

ووادي الغبار

ينشر التاريخ)

نلاحظ انعكاس المعنى على المبنى، فحيرة الشاعر، وآلامه الفردية والجماعية، والتوتر تجسدت في هذا التشظي، ويمكن لمن يرهف السمع أن يتابع هذا النشيد وهو يعلو، ويتلوى، ويناجي، ثم يصبح في الوقفة الخامسة أكثر اتزاناً وتناسقاً وعذوبة، ويغدو الشكل أكثر انسيابية، وقد وظف الشاعر تقنية السرد، فبدت الوقفة الخامسة أشبه بلوحة متكاملة الأركان من أطر، وشخصيات، وأحداث، وانتفت الحيرة ليحل بدلاً عنها اليقين، نتبينه من اقتران الأفعال بالسين (الدالة على اليقين من وقوع الفعل في المستقبل القريب):

(ستطفئيء / سيهدي / ستتوارث / سيزهر / سأتبنى / سيعيدني).

(هذا المساء

ستطفئني

علتي

وجودي

وداود

سيهدي المزمار

إلى كهف النًجوم

ستتوارث الأغصان

طقوس البرية)

يتصدر الإطار الزماني الوقفة، وهذا التقديم للإبراز: "هذا المساء"، إنها لحظة فارقة زمن تحول زمن سحري لحظة انطفاء للأنا واندثار يتبعها انبعاث "ستزهر الشمس"، هذه الولادة الثانية للشعر بدت ممكنة هي أشبه بالانبعاث من الرماد لتحضر أسطورة العنقاء، فيؤكد الشاعر على أن التجديد يقتضي الهدم البناء، وتحتشد الرموز الدينية (داود)، والفلسفية (الكهف)... هذه اللحظة امتزج فيها الديني بالأسطوري، وحضر داود من آتاه الله الحكمة كما جاء في الذكر الحكيم في سورة البقرة "وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء"... حضر داود ليهدي المزمار رمز النشيد والحكمة للأجيال الجديدة (الأغصان)، غير أن هذه الولادة الثانية تستوجب ترقياً وتجدداً، ويوظف الشاعر "الكهف" باعتباره رمزاً لاحتضان الإنسان وتجديده، وقد فسر سقراط ما يعنيه بالكهف: "إن الكهف يمثل العالم، هو رحلة الروح إلى منطقة أوضح إلى التنوير".

إن الخروج عن النمذجة الكلاسيكية بخلق أساليب جديدة هو الكفيل بتخليد النشيد بما يولده من رؤى جديدة:

(ستزهر الشمس

وتفرز الجوارح

سمك الألفاظ)

وتنغلق القصيدة بمعاني مفعمة بالأمل والتفاؤل، بل واليقين من الخلود والبقاء بما يدعو إليه شاعرنا من تجديد، وما يعمل عليه في نصوصه الشعرية بكل مثابرة وجدية، لكأنه مشروع حياة:

(ومن كان ختاماً

سيعيدني

على هلال المصاحف)

إن التنقيب في معاني القصيدة يبدو عصياً، لكأنها تتمنع وتأبى أن تستنفذ من قراءة سريعة هي أيضاً تردد نشيد البقاء، الغموض حيث أحيا الوضوح، حيث أموت... هذا سر جمالية هذه القصائد وفرادتها.


14/ رؤية... بالمختصر الدال:

ـــ الأم: ينبوع عطاء، الملاك الحارس، الأمان الحب.

ـــ الطبيعة: الإلهام، الجمال، الحرم القدسي.

ـــ الحلم: العيش على قيد الأمل، بصيص نور يبدد الظلمة.

ـــ الشهرة: مسؤولية، ضريبة النجاح، ضياع الخصوصية.

ـــ التواضع: شيمة الواثق.

ـــ الشعر: بوح، لغة الشعور، موقف.

ـــ الماضي: الجذور، الذكريات.

ـــ الحاضر: كل ما نملك، زمن البناء.

ـــ المستقبل: فرص لم تستنفذ.

ـــ الطفولة: الطموح، البراءة.

ـــ الشباب: ربيع العمر، ريح الجنة، عماد الأمة.

ـــ الشيخوخة: الحكمة، رمال مناسبة.


15/ كلمة... وليست أخيرة.

15/ كلمة أخيرة:

ـــ ختاماً، أريد أن أتوجه بالشكر الجزيل للأستاذ عبد الرحمن بوطيب لكرم الضيافة، ولإتاحته هذه الفرصة للإدلاء برأيي المتواضع في هذه المشاغل الفكرية الهامة، على أننا دائماً نظل على قيد المحاولة.

كل الامتنان للقائمين على مجموعة مجلات الرؤى العربية للإبداع والنقد، ولكل أعضائها الكرام.

·         شكر وتقدير... مدير البرنامج:

ـ في ختام هذه الرحلة الماتعة رفقة الأديبة العميقة الأستاذة نجلاء المزي يسعدنا ويشرفنا التقدم إليها بالشكر الخالص، وبالتقدير العميق لثري حضورها، ولوازن رؤاها.

موعدنا يتجدد مع أديبتنا العميقة في رحاب الرؤى في إطار أنشطة حياتها اليومية.

————————

= مختارات من إبداع الضيفة:

1/ فن القصة:

"عدت يا يوم مولدي / عدت يا أيها الشقي"

تتابعت تأوهات فريد الأطرش، وملأت الكون من حولي حزناً ينثال، وحسرة تتدفق داخلي ليغلق كل مسام روحي، ويسحبني دون هوادة إلى عوالم سوداء.

وبعد أيام من انكبابي على كتابات كافكا كانت مهمته سهلة... نسيت وأنا أحدثكم عن السعادة المعدية ذات لقاء، أن الحزن أيضاً معدٍ، وها إنني كمريض نفسي في جلسة اعتراف أسمع صوتاً داخلي ينفض عنه غبار النسيان ليطل إلى العلن صارخاً:

ما أحببت يوماً عيد ميلادي... وما انتظرته إلا متوجسة... فمنذ صرختي الأولى... منذ عانقت هذا العالم صفعني صقيعه، ولأني وإلى الآن لم أستطع التخلص من براءتي الزائدة فقد تتالت الصفات مدويّة... والطعنات موجعة...

لهذا وكلما رقت النسمات وبدأت الشمس تغازل البراعم المتفتحة والأزهار اليانعة والطيور العائدة من بعيد... كلما اقترب الربيع وشرع أبواب الفرح والإشراق... كلما اقترب عيد ميلادي... تأهبت لجرعة الخذلان... وعلمت حدساً أن العاصفة قادمة....

عيد بأي حال عدت يا عيد....

برودة المشاعر الإنسانية باتت مخيفة، كلما حل موسم الدفء أصابتها شراسة التملك والتوحش، وبقدر انطوائها في الشتاء، تستيقظ ربيعاً وبها شراهة للتعويض قبل الأفول....

الجميع تكاثفوا ليجعلوا ربيعي خريفياً:

فذات ربيع، وقفت على حافة النهاية لانتكاسة في صحتي، والعجيب لم أجزع وأنا أنظر في عيني الموت... تيقنت حينها أن الوقت قد حان لأرتاح من الهزات، وأني تعبت كفاية من الزلازل ومن الوقوف وحيدة في عين الريح... وجدتني هشة تماماً لألملم بعضي... ركام من الوجع...

والآن وقد استعدت عافيتي أيقنت أن الفجر لا يتنفس إلا بعد الظلام، وأن التسليم بالأقدار، الرضا هو ما يجعل الحياة ربيعاً دائماً.

كثير ممن أحبابنا هم أيضاً جرّعونا كؤوس الخذلان... ودون أن يرف لهم جفن مزقوا أرواحنا... وتكاثفوا مع شياطينهم ليجعلوا حياتنا جحيماً... وفي كل مرّة نعيد الوقوف برباطة جأش، ونتجاهل... لكن مع كل صدام رابح أو خاسر نتغير، نفقد بعضاً منا... تتفلت أيادينا... تتباطأ نبضات قلوبنا... أكوان من الغربة تفصلنا، ونتساءل كيف استطاع من أحببنا كسرنا؟!

نتساءل لم كل النكبات ربيعية؟!

و"لأن حب الخير للغير جهاد لا تقدر عليه كل النفوس" كما أكد نجيب محفوظ، ولأن الوفاء صفة

نادرة، فالوقت كفيل دائماً بإظهار معادن الناس.

الوقت كفيل بإحضار الخريف في ربيعنا ليسقط آخر أوراق التوت...

وبمجرد أن سكت الصوت داخلي عدت إلى ترتيب عالمي الأنيق الخالي من كل الشوائب... أحكمت سد كل المنافذ عليه... أخرسته...

وقفت أمام مرآتي... وبعناية رسمت ابتسامتي المستعارة... ففي عالم الأقنعة حذار أن تنسى المساحيق.

————————

2/ فن الشعر:

"نشيد الوجود"

اخلع نعليك

أيها الغريب

واعرج

نحو نور الوجود

الشرنقة كفن

كذا حدثني الفراش

وعانق الأفق البعيد

طوبى لمن رتق وارتقى

وذاق فانتشى

وطاف حتى ارتوى

واحترق واكتوى

فمزّق ثوبه الجوى

طوبى لمن أصغى

لهمس النشيد

لوشوشة القلوب

أعمى من لا يغشاه نورك

أيها المحبوب.

 

توقيع مدير البرنامج الأستاذ عبد الرحمن بوطيب

المغرب


 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في رواية "عِقد المانوليا" للكاتبة المغربية نعيمة السي أعراب بقلم الناقد عز الدين الماعزي

العاشق الأسود / قصة قصيرة / نعيمة السي أعراب.

أطياف المرايا / قصة قصيرة / الأديب المغربي الأستاذ رشيد مليح.