[ الخضر الورياشي يقرأ "أگدالوكس" ليوسف توفيق ]
[ الخضر الورياشي يقرأ "أگدالوكس" ليوسف توفيق ]
من قرية صغيرة في المغرب العميق، خرج السيد "كمال جبرون"، وذهب إلى مدينة مغربية تسمى أگدال.. ومن لا يعرف أگدال؟!.. مدينة مشهورة عند المغاربة، وربما عند الأجانب أيضاً. وشهرتها تستمدها من عوامل كثيرة، وعناصر مختلفة، طبيعية.. عمرانية.. بشرية.. مادية.. أخلاقية... ومشهورة كذلك بقصص لا تنتهي، ف (هناك قصة جديدة مع مطلع كل شمس، في كل عمارة، وفي كل شقة. في كل سرير، وكل وادي. وعلى قمة كل جبل، أو حتى في سفحه. قصص كثيرة متشابهة وغير متشابهة).
والسيد "كمال جبرون" أديب في أعماقه، وقارئ جيد للأدب العالمي، وبخاصة الروايات.. وصاحب مزاج أقرب إلى الفكاهة والسخرية، وضرب الدنيا بالرجلين، يتحدى الملل في واقعه الشخصي، وفي مكان عمله، وتطيش به الأفكار والتصورات كما تطيش به "طائشتاه"!! (ما هاتان الطائشتان؟ اقرأوا الرواية).
ولأنه كذلك فقد عكف على رسم عالم أگدال، وناس أگدال، بألوان بانورامية، لكنها ألوان من السرد خلال فصول داخل جنس أدبي سماه رواية، هي توليفة من مستحضرات الواقع وتوابل الخيال ونكهة السيرة الذاتية بميزان دقيق، مستخدما أدوات الفن. فقدم لنا وجبة دسمة من نص روائي طعمه شهي لا يثقل على المعدة، وإن كان يثقل على الطائشتين أحيانا (ههههههههه).
أكثر ما وصف لنا السجن وأصحابه وحراسه ومديره ونزلاءه من الأگدالوكسيين! وهؤلاء الأخيرون شخصيات مهما كانت روائية فهي موجودة في الواقع. يصادفها من يصادفها، ونقرأ أخبارها العجيبة في الجرائد والمواقع الالكترونية.
ثم حدثنا عن سكان العمارة التي حرص على أن يحصل على شقة فيها. وحين استقر فيها وطد علاقة مع بواب العمارة، اسمه "الروبيو"، ليكون مصدر معلومات، وراوي أسرار سكان العمارة وأهل الحي أجمعين، ثم كي يقضي له أغراضه الشخصية.
و"كمال" نفسه يتمتع بقوة الملاحظة ونجاعة الاستقراء، وذكاء فطري يعينه على أن يربط بين الحوادث والأمور، ولا تنطلي عليه حيل المحتالين، ولا كيد النساء، ولا خبث الرجال، ولا تخفى عليه ما وراء الهمسات واللفتات ومشاوير الليل والنهار من دواهي وسواهي... أليس يعاشر أصحاب السجن؟!.. ومن عاشر هؤلاء اكتسب خبرة في الحياة كبيرة، ومعرفة واسعة بأحوال الناس وطقوسهم!
إنه كيس فطن، ولو كان مسقط رأسه زايو، تلك القرية المجهولة المنسية، ويعرف عن الدائرين به أشياء كثيرة، وإن كانت علاقته بالجميع محدودة جدا. (بل لم تكن هناك علاقة أصلا. نشارك المصعد والسانديك وباب الدخول والخروج).
قلت ما إن استقر بالحي حتى فكر (في تأليف كتاب جديد عنوانه "أگدال سجن الطبقة المتوسطة")!
عندما قرأت هذه العبارة تساءلت:
من الذي كتب هذه الرواية؟ الروائي الأصلي "يوسف توفيق"، أم السارد "كمال جبرون"؟!
أثناء قراءة الرواية كان يلتبس علي الأمر، وأقول: هو صديقي يوسف.. ثم أتراجع عن قولي هذا، وأقول: لا.. هو كمال الذي أنشأه يوسف إنشاء!!
وأفكر قليلا، وأقول:
كلاهما اشتغل في مصلحة السجون.
كلاهما خرج من زايو وعاش في أگدال.
كلاهما قرأ روايات كثيرة، واطلع على دواوين الشعراء، وحكايات التراث العربي، وأمثال المغاربة، وموسيقى الشرق والغرب، ورقص الإفرنج والرگادة!
كلاهما ينتقد الحياة والدين والدنيا، ويسخر من المظاهر الكاذبة، ويتهكم على النساء المتجملات، والشيوخ المتصابين، واللصوص المتنفذين، وحظ النفس المنيل في ستين نيلة!
كلاهما يكمل الآخر.
كلاهما أمتعنا برواية تخلط بين الحياة وبين الأدب والفن، وتمزج بين الرشد وبين الجنون، وتطيش بنا طيشا جميلا.
الخضر الورياشي.
المغرب.
تعليقات
إرسال تعليق