[ قراءة انطباعية في رواية العودة من الشمال لفؤاد القسوس ] بقلم د. كايد الركيبات.


 

[ قراءة انطباعية في رواية العودة من الشمال لفؤاد القسوس ]
بقلم د. كايد الركيبات.
رواية العودة من الشمال للراحل فؤاد القسوس، من منشورات وزارة الثقافة الأردنية، صدرت طبعتها الأولى عام 1977، فازت عام إصدارها بجائزة الدولة التقديرية، ترجمها كاتبها القسوس إلى اللغة الإنجليزية، ثم قامت وزارة الثقافة بإعادة طباعتها عام 2004، وطبعتها مرة ثالثة ضمن مشروع القراءة للجميع مكتبة الأسرة الأردنية عام 2008، وهي الطبعة التي وقعت تحت يدي إعارة من مكتبة عبدالحميد شومان، تقع الرواية في 228 صفحة من القطع المتوسط.
تحاكي سردية الرواية قصة الحياة الاجتماعية وظروف المعيشة القاسية في قرية ريفية من قرى الكرك جنوب الأردن، مثلت أحداث الرواية مرحلة العقد الثالث من القرن العشرين (ص: 202)، وقد صور القسوس في الروايه مشاهد عامة للبيوت الطينية وتقسيماتها وملاحقها، ووصف زقاقها وطريقها الوحيدة، بإيجاز يعكس بساطتها وبدائيتها، إلى جانب هذا الوصف أسهب الراوي في الحديث عن صور متعددة مثلت العادات والتقاليد والعقيدة الإيمانية السليقية لمجتمع بسيط الطموح قنوع حد الكفاف لمتطلباته المعيشية، اقتصاده الهش قائم على الزراعة وتربية الأغنام بطريقة بدائية ترتبط بما تجود به السماء من مطر، فإن احتبس مطرها هلك الزرع والضرع.
مجتمع القرية وفقاً للقسوس مجتمع منغمس بالجهل وانعدام الثقافة لانغلاقه على نفسه، جاء ذلك على لسان "سلطان" ابن القرية الوحيد الذي كان متعلماً، والذي هجر القرية ليلتحق بمدرسة السلط المدرسة الأشهر في شرق الأردن حينها، والملهم الأول لإبراهيم ــ وهو بطل الرواية ــ يقول الكاتب: "حزني أنكم لا تدركون حاجتكم إلى العلم والمعرفة.. متى ينقطع الحبل السري الذي يغذيكم من طرف والملتصق طرفه الآخر برحم الجاهلية.. كم تبدون سعداء بجهلكم وما أشقاني" (ص: 219).
في سياق مؤثر آخر جعل القسوس من الزواج مدخلاً للانفتاح على البيئة الخارجية عن القرية من خلال توظيفه لقصة زواج الأخت الصغرى لوالد بطل الرواية من "سلامة"، تاجر شاب يسكن المدينة القريبة منهم، فامتازت زيجتها عن زيجات شقيقاتها الأربع الأُخرى اللواتي تزوجن من بني عمومتهن وبقين في القرية، وكان لهذا النسيب الجديد الفضل في توسيع مدارك شخصية عم بطل الرواية "عواد"، ومشاركته لصهره سلامة في العمل التجاري، الأمر الذي تطور ليقوم "عواد" فيما بعد بالتخلي عن هذه الشراكة وممارستها منفردا؛ لما كسبه من خبرة في التعامل مع تجار المدينة، وسفرياته المتعددة للشام، ليكن هذا المدخل الذكي الذي ابتدعه كاتب الرواية جوهر البناء الموضوعي لفكرة الرواية.
اصطحب عواد في آخر سفراته إلى الشام "إبراهيم" ابن أخيه، في هذه الزيارة شاهد إبراهيم مدينة دمشق، ونهر بردى، وشاهد الجنود الفرنسيين الذين كانت لهم السطوة في الشام والبلاد السورية عموماً، وتعرف على "ياسين" صديق عمه عواد الذي كان لكلماته كبير الأثر في نفسه، قال إبراهيم عن الفرنسيين: "إذن فهم أعداء لكم"، فقال ياسين: "أعداء للعرب جميعاً.. ألست مثلنا عربياً.. كل محتل عدو حتى تخرجه من أرضك" (ص: 188)، "غلبونا وتسلطوا علينا.. وقسموا بلادنا إلى دويلات.." (ص: 190)، "كان إبراهيم مشدوهاً.. حديث ياسين يدخل قلبه ويستقر في أعماقه على الرغم من عدم وضوح أبعاده ومعناه...همنا اليوم الاستقلال..." (ص: 191). التفت ياسين نحو إبراهيم قائلاً: هل تذهب إلى المدرسة؟ فوجئ بالسؤال فسكت حائراً: قال عمه: لا. التفت ياسين نحوه قائلاً بشيء من الحدة: ...أتود زيادة الجهال واحداً... إن بقينا هكذا فلن يخرج العلج من بلادنا... سواعد هؤلاء هي التي ستطرد الغزاة" (ص: 190)، "ما الذي يحتاجه الإنسان ليعيش حياة كريمة في وطنه... الكرامة والحرية... وما دام الأجنبي في بلادنا يحكمنا فنحن لسنا أحراراً ولا كرامة لنا" (ص: 191)، "وتزود إبراهيم بأول أنشودة يعلمها لرفاقه.. وبأول قصة شاهد أحداثها يرويها لهم.." (ص: 194)، "بلاد العرب أوطاني*** من الشام لبغدان" (ص: 193).
هذه الاقتباسات من الرواية مثلت شعلة الوعي التي شحذ بها الكاتب شخصية بطل الرواية، وكانت النواة التي سيؤدي انشطارها وتراكم المعارف عليها إلى خلق شخصية جديدة للفتى إبراهيم، وستجعل عودته من الشام إلى قريته النائية جنوب البلاد لحظة فارقة في حياته، وقلباً تاماً لصورة الحياة الريفية المتخفية خلف الجهل والانعزالية عن العالم، وستولد شعاعاً من نور مادته وزاده العلم والوعي السياسي، والمشاركة في الهم القومي العربي.
تنتهي أحداث الرواية بتصوير مشهد للفتى إبراهيم الذي أصبح يرتاد المدرسة في المدينة القريبة من قريته، يسير على قدميه في ذهابه وإيابه فرحاً بما وصل إليه من تدرج بالمراحل الدراسية، وتملأ السعادة قلبه لأنه تميز عن زملائه في المدرسة بزيارة الشام، ومن وحي زيارة إبراهيم للشام وعودته منها إلى قريته الجنوبية أخذت الرواية اسمها (العودة من الشمال) في رمزية للتغير الجوهري في الفكر والتوجه الذي أكسبته الزيارة لشخصية إبراهيم الذي يمثل الوعي المتغير للأفضل.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في رواية "عِقد المانوليا" للكاتبة المغربية نعيمة السي أعراب بقلم الناقد عز الدين الماعزي

"العزيف" / نص مسرحي من فصل واحد / الكاتب والمخرج العراقي منير راضي / النص الذهبي الفائز في مسابقة الرؤى المسرحية 1 / السلسلة الثانية 2024 / في إبداع النص المسرحي من الفصل الواحد

{ سيدتان عالمتان بسري } قصة قصيرة / الأديبة الروائية والقاصة السودانية الأستاذة مروة أسامة.