عين على قصيدة / الزجال محمد النواوي يغني للمحبة / الناقد نور الدين حنيف أبو شامة.
{ عينٌ على قصيدة }
* الحلقة الثالثة *
[ الشاعر المغربي الزجال محمد النووي يغني للمحبة ]
في زجلية ذكية بناءً ودلالة، قبل أن يحكمَ الزجليةَ موضوعُها المتناغم في تكريس مقولة المحبة، حكمها الميزان، فجاء البيتان الأولان إيذاناً بصوغٍ زجليٍّ جديد وجدير بالقراءة والعناية النقدية، وذلك لما يحملانه من شحنة إيقاعية تزفّ إلينا خبر المحبة على طبق صوتي وسمعي يغري بالمتابعة الواعية لزجال يتنامى قويّاً في بناء عالمه اللهجي بامتياز.
قال الزجال محمد النواوي:
"مناش اللي
تجيبني على هواك
مناش اللي
دّخلني سوق جواك"...
وانظر معي أيها القارئ إلى التقسيم الذكي والماكر لمقاطع البيتين بتكرار وحدة لسنية مشحونة باليقين "مناش"، وتقابلها في اللغة العالمة عبارة (لستُ أنا منْ...)، وانظر معي أيضاً إلى اختزال اللهجة واقتصادها القويين لمجموع الدلالات الكامنة في نفيِ الشك وإثبات اليقين "مناشْ" تَجِدِ الزجالَ إذن في قوة البناء يختار من الزجل أنسبه، ومن فن الإبداع اللهجي أقواه لأنه يعلم علم اليقين أنه في خوض فن الزجل إما أن يكون أو لا يكون، على اعتبار أن ساحة الإبداع الزجلي أصبحت عامرة عماراً فاسداً بالردئ والضعيف والخاوي والمتطاول... وهو في هذا السياق أبى إلا أن يحمل رسالة الجودة معلناً بداية الفن في فن الزجل عبر بداية زجلية موفّقة في ترسيخ فعل المحبة في وعاء لهجي راقٍ ومسؤول.
يعلن الزجال عن هويته المفتوحة والمنفتحة على الآخر في غير سذاجة، وفي غير خديعة، لأنه ينفلت من قبضة الغدر بحزام السلامة العمري رضي الله عنه (لستُ بالخبّ ولا الخبّ يخدعني)، وهي المقولة التي دعمها ابن القيم في وصفه لعمر بن الخطاب (وكان عمر أعقلَ من أن يُخدع وأورعَ من أن يَخدع).
من هذه المشكاة اقتبس الزجال محمد النواوي سيرة المحبة وكرّسها في سياق لهجي مبدع يتبنى فكرة الاستقلالية التي تجعل الذات المتكلمة بعيدة عن شباك الآخر وكمائنه المُغرّرة والتي صاغها الشاعر في مفردتين دالتين "الهْوى والجْوى" بحمولتهما الشعبية المنغرسة في الوجدان المغربي، وقد صاغها في تناص مع المسكوكة الدارجة (ادخل سوق جْواك)، وفيها ما فيها من التلبس الدلالي الواخز والعميق في وخزه.
إن الضامن لهذه المناعة القيمية هو امتلاك الذات المتكلمة لقلب عامر بكل الطاقة الإيجابية، وقد عبّر عنها بمفردة أكثر دلالة وهي تمتح من التعبير اللهجي السائر بين الناس. قال الزجال النواوي:
"إلا كان الݣلب عامر عطفة"،
وهذه الطاقة هي العاطفة أو الوجدان أو الداخل المعتمل عبّر عنه بالحذف الدارج للألف (العطفة)، وهي مفردة تشي بالحمولة الدلالية الشعبية أكثر من المفردة العربية العالمية، وفيها دلالة على الانعطاف، كما فيها دلالة على العاطفة، وفي كلٍّ خير لمقولة المحبّة. خارج هذه المناعة، أي القلب العامر يمكن للذات أن تسقط في محظور الغواية التي يبني كمائنها الآخر المُغْرِضُ والمُبيّتُ شرّاً وحسداً وضغينة...
ولن تكتمل صورة المحبة في بناء أحادي منقوص، بل لابد من تواطؤ الذات والآخر في سيرورة قيمية تصنع التناغم، وتذهب بالعلاقات الإنسانية مذاهب العمار والخير والجمال إلى أقصى حدود المذهب... قال الزجال في هذا التناغم:
"نحلّو صدفة صدفة
نزطمو عل الشوك
ؤ لا بان لغدر
منّي ؤ لمنّك
نحفرو قبر
ؤنترمو فيه
حنايا بزوج".
في قمة الوعي يتم صنع القرار في حالة النشاز، أي في حالة الغدر، وبمعنى أخر: نحن لا نستحق الحياة مادامت فلسفتنا مبنية على الغدر، وفي فائض المعنى يكاد يراع الشاعر أن يرسم نهاية كل العلاقات المبنية على الغدر وهي القبر بحمولته الترابية والتي تتناغم مع المسكوكة المغربية الشعبية (ما يعمّر عين بنادم عِ التْراب)...
تحياتي العاليات لك يا محمد على هذه التحفة الزجلية الخارجة من بهرجة القول إلى فعل القول وهي ترسم لنا معلماً واضحاً من معالم المحبة في غير سذاجة، بل في ذكاء العارفين، وهم الذين يسكتون على الإساءة لقوة منهم لا لضعف، وتحيات أعلى للبناء اللهجي الطريف والظريف والذي يؤسس لزجل نغمي حامل للموسيقى وللدلالة ولفائض المعنى لمن له قلب وسمع وذوق يمج الرداءة ويرحب ويرقص للجودة. أنت جيّدٌ يا محمد وأكتفي.
* نور أبوشامة حنيف.
= المتن الزجلي: زجلية للشاعر محمد النواوي.
مناش اللي تجيبني على هواك
مناش اللي دّخلني سوق جواك
إلَ كان الݣلب عامر عطفة
نحلّو صدفة صدفة
ؤ ندخلو بالسيف
قبل ما طّيح وراق لخريف
ؤ لكانت الطريق مسامية
نشݣوها ؤ يدينا مشابكة
ؤلكانت لمريرة نابثة
نزطمو علشوك
ؤ نمحيو ربيعها
بخطوات رجلينا حنايا بزوج
ؤ لَكان الزمان لَݣانا فالسما
نغزلو وقاتو صحبة
ونسرسبو اياماتو محبة
عمري ؤ عمرك
فوق الأرض نعيشوه بزوج
ؤ لا بان لغدر
منّي ؤ لمنّك
نحفرو قبر
ؤنترمو فيه
حنايا بزوج.
* محمد النواوي.
تعليقات
إرسال تعليق