رحال الإدريسي شاعر يحاور الماء في جلال التكوين / قراءة نقدية للناقد نور الدين حنيف أبو شامة.

 

[ عينٌ على قصيدة ]  
مع الزجال رحال الإدريسي. 

{ رحّال الإدريسي
شاعرٌ يُحاوِرُ الْماءَ فِي جلالِ التّكْوين } 

الماءُ مكوّنٌ فاعلٌ ومنْفعلٌ، لا يحضر في زجليّة الشّاعر "رحّال الإدريسي" بصفته الطبيعية المنسابة شكلاً سائلاً من السيولة، ولكنْ يحضر في القصيدِ كحقلٍ دلاليّ عامر الأبعاد، وصارخ بالرؤى، ومفعم بالرمز... يحضر إشكالاً سائلاً – من السّؤال – الْملحّ على الذّات بالتجلّي المتوتّر والْغاضب والْمترنّح بين وجودين: وجود الانحناء، ووجود الهامات.
"رحّال الإدريسي" مثقف من أبناء الصاخبة "البيضاء" سليلُ حيّ شعبي، أرضعهُ عشقَ المكان في امتداده الإنساني بدءاً بتخوم الدّرب، إلى حدود القرية "لْمرڭدْ"، إلى أفق الانتماء الكوني، في قناعة شعريّة جليلة بتبني شخصية الجمال في كلّ أشكَاله المُمكنة وغير الممكنة. 
نلتَقيهِ في زجليّة عامرة بكلّ شيء، ومزدحمة بالقوّة حتّى نسيتْ أن تسميَ نفْسَها في دثار عنْوانٍ يحاصِرُ امْتدادها الرّحب... لهذا بدأتِ الْقصيدَة بخطابٍ نوعيّ يُحاورُ "الْڭلّة"، بلْ يجسّ نبضَها كيْ يحظى بشرْبَة هنيئة في أزمنَةِ الصّهدِ المتغطْرِس.
وتصَوّرْ معي، أيّها الْقارئُ الْجميلُ، وضْعَ امْرئٍ يحْتوِيهِ الظّماُ، فَيمْسكُ بِعُنُقِ "الْڭلّة" / الْجرّة، يحرّكُها في تلْقائِية حركةٌ ميكانيكية تشِي بفرحةِ اللقاء بينَ الْعطشِ والْارْتواء، يرِيدُ أنْ ينْهَل فيخْرُجُ بَدَلَ الْماءِ كائِنٌ قَبيحٌ "بوجعْرانْ"... فمَا يكونُ ردّ فِعْلِك غيرَ الشّعور بالْغبْنِ في أقصى حدود الْقَسْوة الْهازِئَة في تشكيلٍ دلاليّ يمْتَح مادّتَهُ السّاخِرَة من الضّحِكِ الْأسودِ، كما سمّاهُ الرّوائي "إميل حبيبي". 
وفي ثنايَا ثنائِيّةٍ واخزَة، تجمعُ بينَ مقُولَتيْ "الصّهد" و "الْارْتواء " يتشكّلُ عالم هذه الزجليّة المْسومَة بالذّكاء ، وهيَ تَفْضَحُ شكْلَ النّضالِ الْخاوي المتخَفّي خلْفَ الصّراخِ الْأجوف، مجسّداً في إشارة لمّاحَة "الوادْ الْهرهورِي"... وفي الْمقابِل، هي تمْدَحُ أشكالَ النّضال الْعامِرِ بالصّمتِ القويّ "الوادْ السّاكتْ"... وبينَ الْإشارتينِ نبعَ عالَمٌ جميل من التشكّلاتِ الاسْتعاريّة، سيّدها هو عنصرُ الْماء في تجليّات متنوّعة غنيّة وماتِعَة:
كيْفَ ينْكسِرُ الْماءُ؟ هنا يخرجُ عليْنا السّي رحّال بانْزياحٍ جليلٍ يغْتَني بالْمجاز الْمرسل في اجْتِهادٍ بلاغيّ لا يُكرّرُ الْمقولات الْقديمَة، ويتوسّلُ عنصُرَ الْمُجاورَة بينَ الْمحتوى والْمُحتوي، بين الْماء والْجرّة، ليصّعّدَ بالصّورَة إلى مِخْيالٍ شعْبيّ يدْعو صاحِبَ "الْڭلّة" إلى ممارَسَةِ فعْلِ الْجبْر، في صورَة بدويّة تقليديّة جميلَة يرَتّقُ فيها الْبدويّ الْجرّة بسِلْكٍ زيادَةً في عُمْرِها... منْ هنا قدرَة الفاضل "رحّال الإدريسي" على استثْمارِ الْمخيالِ الشّعْبي للدّفعِ بجمالِيّة الزّجل إلى آفاق أوسع.
تخْرُجُ عمليّةُ الْجبْرِ من الْحسّي "الْڭلّة" إلى الْوظِيفي { آجِيوْ نْجَبْرُو لْما – يتْقَادْ صُوتُو } ... لا يُصْبِحُ الْماء ماءً في ترْكيبٍ يذْهَبُ بالْألقِ بعيداً عن التّشْييئِ الْخاوي، ويتحوّلُ الْماءُ إلى منْظُورٍ جمْعيّ لحركيّة النّضال المتطلّبَة لعمليّاتِ التصْحيحِ في زمنِ الصّراخ الصّاخِب الْفاتِكِ بشرْعِيّة النّقاء بدلَ الدّرن، والاسْتواء بدلَ الْعوَج { يتْقادْ } ... وهُو فعْلٌ حامِلٌ للضّوء في رمزِيّة قويّة تفضّلُ الماءَ أيْ النّضال، صامِتاً مستقِيماً على الْماءْ، أي النّضال الصّاخِب بغير جدوى.
اسْتِعارَة أخرى لا تقِلّ عنْ سابِقاتِها روعة، وترْتبِطُ بانْبِعاثِ الْفرَس الْحرّ منَ الْماء، في تشْكِيلٍ أسطوريّ يقابِلُ انبعاثَ العنقاء من الرّماد... { فاقْ عَوْدْ لْما مخْلُوعْ } ... وهو فرسٌ لم توقِظْهُ حركيّة الْماء عندما كان الوادي "هرهوريّاً" ... واسْتفاقَ في حالاتِ صمْتِ الْماء في انْثِيالٍ جميلٍ للصّور الْممكِنَة والْمُتناسِلَة من هذه الاسْتِعارَة الْأمّ، والّتي تتَغذّى دائماً منْ هذا الْمخيال الشّعبي الثّرّ.
قد أكون قارِئاً دونَ توهّجِ الْقصِيدَة، لكنْ ما يَشْفَعُ لي قراءَتي، أنّني أمْتلِكُ بعْضَ الضّوءِ في كفّي بمصيرِ الْخُفوتِ لولا وهَجُ حرفِ السّي رحّال الّذي أتاحَ ليراعي فرْصَة الْمقارَبَة في عالَمٍ لا تَكْفِيهِ جلْسَة... بلْ جلسات. 

نور الدين حنيف أبو شامة. 
المغرب. 
————————
* النصّ:

قلقلت ماكْ ياگلة
طلع بوجعران
تسلّيت بيك يا سلّة
ؤ هادا ما كان
هزّيتك نبرّد بْ ماكْ
تهرّس ماكْ
بحكم قاسي
بصهد لْحگرة طاب
ما بْقى گاسي
گالو طاحت ليد ف طّاس
نحسب شْحال من يد
و شْحال من طاس
يگول طاسي
و شحال من راسْ
يگول أنا راسي
آجيو نجبرو لْما
يتقادْ صوتو
يسكت خريرو لخريرْ
يدوز فْ وادو صامت
الحملة الحملة
تفيّق نعاسي
يسكت لما ف وادو
يشربوه صامت
يبرد جوف
جوف كل مناضل قاسي
سالات الحملة
والراس راس
كلها يگول انا راسي
فاق عَوْد لْما مخلوع
واخّا ماهْ ساكت
لعجينة لْخامرة
دارت بومزوي

رحال الإدريسي. 
المغرب.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في رواية "عِقد المانوليا" للكاتبة المغربية نعيمة السي أعراب بقلم الناقد عز الدين الماعزي

العاشق الأسود / قصة قصيرة / نعيمة السي أعراب.

أطياف المرايا / قصة قصيرة / الأديب المغربي الأستاذ رشيد مليح.