توثيق النص النقدي الفضي الفائز بالرتبة الثانية في مسابقة الرؤى الكبرى 4 في نقد قصيدة النثر الحداثية / الناقدة السورية رولا سلوم.
{ امتدادات مسابقة الرؤى الكبرى 4 في نقد قصيدة النثر الحداثية }
توثيق النص النقدي الفائز بالرتبة الثانية في نقد قصيدة النثر الحداثية "ضلال شرق" للشاعرة السورية الأستاذة روضة الدّخيل.
الناقدة السورية الأستاذة رولا علي سلوم.
——————————
1/ الدراسة النقدية:
[ تستهلّ الشاعرة قصيدتها بدعاء محبّ، تفتتح صلاتها بدعاء ملؤه الحب، تقول : "لعينيكِ النور"، العين حين تبصر النور تكون سيدة نفسها، وما قيمة الإنسان من غير رؤية؟!
تترقّبُ بشوقٍ مجيء الفجر، وزوال الظلام بكل عتمته وما يغطيه من سواد.
تستعير الشاعرة للفجر صفة الخَلع التي يقوم بها الإنسان في قولها: "يخلع الفجر العمامة" ليعلنَ ميلاد الشروق... صلاة تفاؤل، ودعوة خير ومحبة، تتمثل بمفردات: "النور، الفجر، ميلاد، الشروق"، هذا ما تتمناه الشاعرة... طاقة فرج وفرح وخلاص، ثم تنتقلُ لخاتمة صلاتها، أن يُستبدل الكحل في عينيها بالرماد، أن يحلّ الكحل رمز الزينة والسرور محلّ الرماد، رمز الحزن وتشوش الرؤية.
في صلاتها الأخيرة رجاء أن تغسلَ الدموع عينيها وماعلِق بهما من أوجاع، لكنّ الذي حدث، أنه تجمّدتْ الدماء بلونها الأزرق في العروق وفي الشرايين.
تنادي بحرقةٍ: "رّباه"، والنداء لغير الله مذلة، تتساءل باستنكار: "كيف يحضن الفرات البغاء"، أيُعقلُ اجتماع العذوبة والبغاء؟!... أيُعقلُ أن تتحوّلَ أرض الفرات النقية الصافية إلى مأوى للرذيلة والظلم والانكسار؟!
حتى الحمَام، رمز السلام والأمان، ينتفض ويثور رافضاً ما يحدث من تشويه هديله... صوتُه أضحى مبحوحاً، ليس كما عهدناه... الحمامُ منتفضٌ، متغيّرٌ حاله، على صوت القنابل والصواريخ التي تبرق بأشعتها.
تؤثرُ الموسيقا الداخلية للقصيدة على ذائقتنا السمعية من خلال ما تُورده الشاعرة من جناسٍ جميلٍ مثل: "هديل ، هدير " ، "الشرق ، شروق "... ومن خلال تلك الاستعارات المؤثرة، فالفراتُ أمٌّ... لكنها لا تحتضن مولوداً من صُلبها، بل تحتضنُ البغاء، مولوداً غريباً غير مألوفٍ وغير مُرحَبٍ به.
وتُكثرُ الشاعرة من الأساليب اللغوية في قصيدتها النثرية كقولها: "فكيف يعانق دجلة عند الغروب الغزاة"... لقد تعوّدَ أبناء الفرات ودجلة أن يستمتعوا بمنظر الغروب عند أول المساء... فكيف تحوّلَ هذا الفعلُ إلى غيرهم من الغزاة المعتدين الطامعين؟!
لقد دنّسَ الغزاة أرض الجزيرة الأبيّة، واحتلوا أماكننا الحبيبة... دجلة والغروب، ومَن أحقُ من أهل الجزيرة برؤية هذا المشهد الساحر؟!
وفي حَمْأةِ هذا المآل الحزين، فالقلب لاحيلة له سوى الخوف والحذر والخفوق، هذا القلب الذي كان يتشوّقُ لمنظر الغروب، أضحى خائفاً قلقاً، لاحول له ولا قوة.
لا سبيل أمام الشاعرة في كلّ دروبها وطرقها سوى العتمة والظلام.
تستخدم الشاعرة فعل "ترفل" بإشراقة معناه، ليكون مظلماً حزيناً في مبناه، فالفعل "رفلَ" يعني تبختر في المشي فرحاً واعتزازاً... وأنّى لها أن تتبختر وتفتخر وسط هذا الظلام؟!
وقد زادت الشاعرة الجملة ظلاماً بقولها: "حالك الظلمات" ، لقد أكدّت الظلمة بمترادفتين في آنٍ واحدٍ للتأكيد على كمّ الحزن والألم والضياع.
ولتزيدَ المشهدَ ألماً ووجعاً جعلت الجثث تتشظى في العراء بلا أكفان، أيُّ وجعٍ هذا؟! وأيّ موتٍ مُذلّ أن يموت الإنسان بلا كفن وبلا حُرمةِ ميتٍ؟!
رغم أنّه لا لجرحٍ بميتٍ إيلامُ، لكنّ للموتِ رهبتَه، وللوداع هيبتَه.
وتُمْعِنُ الشاعرة في وصفٍ دقيقٍ للموت، فهي تجعل الأشلاء تتناثر في العراء، وعلى مساحات الوطن الجريح... حتى الأحلام تغدو جثثاً تتجدّدُ وتتناثر وتتشظى بلا حدود، بلا أمل، بلا حياة...
أما القلبُ فقد تحجّر، وعلى تحجّره فهو يئنّ ويتألم. القلوبُ في بلادنا فقدت وهج دمائها، وهج لونها الأحمر، أصبحت كالحجارة، لكنها تتألم وتتوجّع... ما أقسى أن يكون الصديق جلاداً بسوطه، أو قاتلاً بعد أن خان وحنث بالعهود وبالمواثيق!
ما أصعبَ أن يتحوّل الصديق إلى خائنٍ يقبض بيدين من حديد على رقاب الضعفاء، يمصّ دماءهم، وكأنه ما كان يوماً صاحب ودّ ورفيق.
الشاعرة بدأت بصلوات، ومن ثم رمّزت لوجود غرباء في الوطن الحبيب سورية، يَقتلون بالمجان، ثم انتقلت لتشملَ كلّ مَن دخل سورية صديقاً ليتحول إلى نقيض ذلك، وبعدها تصفُ الوضع الاقتصادي الصعب، فالمدافئ صائمة، تستعير للمواقد صفة الصوم، فلا محروقات تُحيل البرد دفئاً، باتت سورية بلا معطف، وأصبح الوقود لهباً على الأرض، يُحرقُ الشباب والمدافعين، ليحيلهم جثثاً هامدة، لقد أضاعتِ الحرب كنوزَ البلاد وثرواتها، ومن بينها الوقود... وماذا بعد؟
المقابر ممتلئة، عامرة، والحقول مأوى للغربان حيث الشؤم والخراب، ومواسم الخير تنتظر مَن يحصدها، ولا مجيب، لقد مضى وقت الحصاد، ولا حصّادون، وأصبح فصل الخريف سيّداً... الخريف رمز التغيّر والحزن وتساقط الأوراق، أصبح سيّداً، مضى الربيع والخريف والشتاء، حتى القبّرات صاحبة الصوت الحسن تحوّلَ صوتها إلى نعيب بوم، والسحابُ المحمّلُ بالخير بددّته ريحٌ عاتية، أضاعت كلّ ما يحمله من مطر وخير.
كيف تحوّل الحُبّ في بلادنا إلى كره؟! كيف أصبح الفرح وجعاً؟! كيف أصبح الجمال قبحاً؟!
أيّ قدر أحمق الخطا قدَر وطننا؟ حتى العَلَم، الراية رمز السيادة والعزة والكرامة في بلادنا، ما عاد مرفرفاً خفاقاً، سيّما في المساحات المحتلة من وطننا والخارجة عن سلطة الدولة وقوانينها.
العصافير الصغيرة أيضاً غيّرت مقامها، وقفلت عائدةً لمكانٍ آخر، ولموطنٍ جديد، يعمّه الأمن والسلام... فكيف بعد كلّ هذا الخراب والألم يستطيع إنسانٌ أن يستمر ويحيا؟!
وبلاد الشرق في كلّ يوم، وفي كلّ إشراقة شمس يملؤها الظلام والألم والحزن والضياع.
النص ممتلئ بالحيوية والجمال، رغم مسْحة الحزن الشفيف التي تظهر بين الفينة والأخرى... تلك الحروف الهامسة التي تجمعها حروف عبارة "سكت فحثه شخص"، حروف الفاء والتاء والسين والحاء التي وردت في كلمات الشاعرة "مرفرف، حزن ، سارية، العصافير، الصغيرة، قافلة، القبرات، التلال، مرت، بددته، ريح، عاتية... " ، ثم استخدام الشاعرة التضاد اللفظي، وذلك من أجل إيضاح المعنى أكثر، وذاك التقابل بين الجمل من مثل "انفراط عقود، ونكث عهود" ، إضافة إلى ذاك الانسجام بين المفردات وتوافق بعض حروفها من مثل "عند الغروب، الغزاة "، أيضاً تنوّع الأساليب اللغوية مثل النداء "رباه" ، والاستفهام مثل "كيف يحتضن الفرات البغاء؟".
النص يغصّ بالصور الفنية الرائعة المستوحاة من صميم الواقع، وتكاد لا تخلو جملة من تشبيه أو استعارة أو كناية... إضافة إلى أسلوب التأكيد من خلال تكرار المعنى بمفردتين رديفتين مثل "حالك ، الظلمات".
ولِمَن تهدي الشاعرة قصيدتها؟ إلى الحاضر الغائب ، إلى "الجميع والكل في غياب" ، وكأنها تقول: لقد ناديتَ لو أسمعتَ حيّاً ولكنكَ تنفخ في رماد.
أما العنوان (ضلال شرق) فهو أبلغ ما عبّرتْ عنه الشاعرة "روضة الدخيل"، وكيف لنا أن نسميّ ما تعيشه بلادنا بغير "ضلال شرق"، هل نعرفُ إلى أين نحن سائرون؟ هل نعرف مصيرنا الآتي؟ هل نحن أصحاب قرار؟، أم لعبة بأيدي الأمم المستبدة؟
تعمدُ الشاعرة إلى الطباق لإيضاح ماتريد إيصاله إلى القارئ مثل "فاتحة، خاتمة" ، كما تتخيّرُ الشاعرة مفردات بعينها لتزيد النص رونقاً وجاذبيةً من مثل "ترفل ، يئنّ ، انفراط عقود ، ريح صرّ ، عامرة ، السيادة ، قافلة ، يعجّ ".
لقد استطاعت الشاعرة "روضة الدخي" بنصها القصير، وبحروفها المنتقاة، وقصيدتها النثرية الرائعة، أن تتغلغلَ في أعماق أرواحنا، وأن تقترب من دماء شراييننا... استطاعت أن تمزّقَ خيوطاً من نياط قلوبنا بعد أن وصفّتْ حالةً إنسانيةً عميقةً إثر الحرب على سورية، وكيف أصبحت بلادنا بعد تلك الحرب اللعينة، وما الفرات ودجلة سوى رمزين لخيرات سورية كلّها، ورمزين أيضاً لعزّة هذه الأرض ومكانتها العظيمة، أرض الحضارات والمنارات.
نص باذخ مترف بالمضمون والألفاظ، غني بالمَعنى والمَبنى، فيه تكثيف جميل، وجرْس موسيقيّ مُلفِت،
الأحلام في حلّنا وترحالنا، في نومنا ويقظتنا... لكنها تنتهي بأضغاث أحلام ].
رولا علي سلوم.
سورية.
——————————
2/ النص الشعري:
نص: ضلال شرق.
للشاعرة روضة الدّخيل / سوريا.
= المناسبة:
لأنّ الواقع يغرقنا كلّ يوم في مستنقع جديد، ينتهك إنسانيتنا بلا تمهيد، فنشعر أنّنا مهمّشون مبعدون عن الحياة، تبتلعنا دوّامات الحيرة، تنهش لحومنا مخالب العجز، لا أحد يسمع أنين نداءاتنا، أو يفتح لنا بابا ولا حتّى كوّة ليطلّ علينا شعاع أمل، أو نسمع حفيف وعد فنعيش انتظار حلم، ولأنّنا لم نمت بعد، فمن حقّنا أن نكون من روّاد الحياة.
هذه قصيدتي مرثيّة عالمنا الذي طال احتضاره.
= النص:
إهداء: (إلى الجميع...
والكلّ في غياب).
ضلال شرق.
فاتحة صلاتي
لعينيك النّور
حين يخلع الفجر العمامة
معلنا
ميلاد الشّروق
وخاتمة صلاتي
لعينيّ الرّماد كحلا
والدّموع الغسول
فتتجمّد الدّماء
زرقاء في العروق
ربّاه
كيف يحتضن الفرات
البغاء
والحمام ينتفض
مبحوح الهديل
على هدير
وقع البروق
وكيف يعانق دجلة
عند الغروب
الغزاة
والقلب لا حيلة له
سوى التّوجّس
والخفوق
كلّ الدّروب على امتداد خرائطي
بحالك الظّلمات ترفل
وفي العراء
بلا أكفان
تتمدّد جثث
الأحلام
وفؤاد الشّرق كالحجارة
يئنّ
تحت عجلات عربات صديقة
بعد انفراط عقود
ونكث عهود
ومواقد الشّتاء صائمة
عن طيف دفء
أهدرت وقودها
حرائق الدّماء
كلّ المقابر عامرة
والحقول مراتع الغربان
وبلا حصاد
هي المواسم
ما الغريب
فالسّيادة للخريف
وللقبّرات على التّلال
نعيب بوم
فكلّما مرّت سحابة
بدّدتها في الصّميم
ريح صرّ عاتية
ما عاد في الشّرق علم
مرفرف فوق سارية
والعصافير الصّغيرة
قافلة
لوجهة أخرى
فكيف يحيا كائن...
إنسان
والشّرق كلّ شروق
يعجّ به الظّلام
روضة الدّخيل.
سوريا.
——————————
* سيرة ذاتية *
رولا علي سلوم، أدبية سورية.
مواليد ٢١-٣-١٩٧١ اللاذقية / سورية.
— إجازة في اللغة العربية وآدابها.
— دبلوم دراسات عليا قسم الأبيات.
— دبلوم تأهيل تربوي.
— ماجستير لغة عربية بدرجة ممتاز / موضوع بعنوان (الموت في أشعار أغربة العرب الجاهليين والمخضرمين).
— تعمل مدرسة لغة عربية.
— تحب مهنتها جداً، وتؤمن بأنّ بناء الإنسان عمل مهم وشاق، ولكنه السبيل للنهضة والتقدم بالمجتمع.
— تهتم بالقراءة والتحليل والنقد الأدبيين.
— تشرف على نشاط شهري بجمعية "العاديات" في اللاذقية تحت عنوان (اقرأ... مع العاديات).
* إعداد وإدارة الأديب المغربي الأستاذ عبد الرحمن بوطيب مؤسس مدير عام مجلة الرؤى العربية للإبداع والنقد *
تعليقات
إرسال تعليق