القراءة النقدية الفائزة بالرتبة الذهبية في مسابقة الرؤى الكبرى 4 في نقد قصيدة النثر الحداثية / د. معروف صلاح أحمد / مصر.











(الدراسة النقدية الفائزة بالرتبة الذهبية في مسابقة الرؤى الكبرى 4 في نقد قصيدة النثر الحداثية)

الدراسة للناقد المصري الدكتور معروف صلاح أحمد.

 

(هذه الدراسة تعتمد في أصولها على عشرة عناصر على الترتيب هي: (العنوان - التصنيف - المناسبة - الغرض - التفسير - الموسيقا - الأسلوب ـ الخصائص -  الأفعال - الصورة الكلية) وتختتم هذه الدراسة بالمآخذ على القصيدة، ولقد استخدمنا فيها المنهج التحليلي الوصفي).

= الدراسة:

+ أولًا: عنوان القصيدة: العنوان: (ضلال شرق).

يفاجئنا العنوان منذ الوهلة الأولي بقضيتين كبيرتين:

ـــ أولاهما قضية (الضلال) وهي قضية كبرى في الأديان وفي المجتمعات، وحتى على المستوى الفردي للأشخاص منفردين بذاتهم أو في احتكاكهم مع الآخرين، فمضاد الضلال الهدي والرشاد، وليس بعد الغي إلا الضلال، فإذا ضلت الأفراد أو المجتمعات أو الأوطان فكبر أربعًا وقل: (على العيش وعلى الحياة وعلى الناس السلام) وعدنا للجاهلية الأولى، وضاعت إنسانية الإنسان ومعالمه.

ـــ والقضية الثانية هي قضية (الشرق) وهذه الكلمة فيها تخصيص بالإضافة وتحديد لمكان الضلال، نعم إنه الشرق بكل معاني الكلمة من ظهور وإشراق للأديان وسحر وكنوز ما في الأرض للإنسان، فقد جرت العادة على إطلاق هذه الكلمة كمصطلح جغرافي على بلادنا وما يخص وطننا العربي الكبير بكل دوله من العراق بوابة الخليج حتى بلاد المغرب بوابة المحيط، ومن الشمال (البحر)  للجنوب (المحيط) من البحر للبحر ومن الخليج للخليج، ومن النهر للنهر عبر نيف وعشرين دولة مغلقة الحدود بكل ما فينا وبكل ما فيها برغم وحدة الرب الإله والأرض واللغة والتاريخ والدين والعادات والعرف والتقاليد... مثلما نطلق على أوربا وأمريكا مصطلح الغرب...                                       ف (ضلال شرق) عنوان ليس بالصغير المبهم الذي لا يفهم، ولا هو بالكبير الطويل المخل لمقاصد القصيدة الكبرى، فتوافر فيه عنصرا التناسب بين اللفظ والمعنى والقصد والإرادة بما فيه من تخصيص، وبما يتجاهله من التعميم، فالإضافة فيه خاصة ومحددة ومقصودة.                                                           وجدير بالذكر أن من شروط جودة العنوان أن يكون علمًا جيدًا لذات القصيدة يصح أن يوضع فوق رأسها كتاج ولؤلؤة كبيرة، تتبعه بعد ذلك كل خرزات وأبيات القصيدة، وألا يكون قصيراً مبهماً لا يفي بالغرض، وألا يكون طويلًا مملًا مخلًّا بمعاني وتوجهات القصيدة، وهو ما تحقق فعلًا فيه ويحسب للشاعرة، وهي موفقة في اختيار ألفاظ عنوان القصيدة.

+ ثانيًّا: تصنيف ووصف العمل الأدبي:

 القصيدة مكونة من أكثر من (١٧٠) مائة وسبعين كلمة موزعة (اسم وفعل وحرف) صنعت أحد عشر ( ١١ ) مقطعًا شعريًّا من القطع المتوسط، ليست بالطويلة التي يزيغ ويميع ويفوح معها المعنى ليناسب العبارة، وليست بالقصيرة المكثفة الوجيزة التي تعتمد على الرمز والتكثيف والاختصار كالقصة القصيرة، فلقد كتبتها صاحبتها وشاعرتنا على نظام الدفقات المميزة الشعورية كل مقطع يحمل دفقة شعورية معينة، فليست كالشعر الخليلي التقليدي الكلاسيكي النمطي القديم الذي يعتمد على وحدة الوزن وثبوت القافية الرتيبة، و يعتمد البيت الواحد وحدة بناء القصيدة، وكل بيت وحدة قائمة بذاته، فلم تخضع القصيدة للتعريف القديم للشعر باعتباره كلاماً موزوناً مقفى دالاً على معنى...، بل على العكس تمامًا كتبت بطريقة قصيدة النثر الحداثية التي تعتمد على نظام السطر الشعري النثري، والاعتماد على القوافي الداخلية والخارجية، دون صياغة قانون عام يحكم سطورها النثرية غير المشاعر والنبض والأحاسيس والدفقات الشعورية المتتالية، فاعتمدت على الإيقاع وليس الوزن، وعمق المجازات، وجودة السبك وكثرة وروعة التصاوير، وقلة المحسنات البديعية المتكلفة، وبأسلوب سهل ممتنع، وبلغة حياة معيشة جزلة ونابضة وغير مقعرة، فتلك هي قصيدة النثر الحداثية التي بين أيدينا .

+ ثالثًا: مناسبة كتابة القصيدة وموضوعها:

القصيدة واقعية درامية تتحدث عن الواقع المثير الأليم الذي نحياه كأتباع وأذيال بلا ضمير، فلا عقل جمعي يحكمنا ويشدنا للرقي والازدهار، فنسقط كل يوم في مستنقع وبيل جديد من القتل والتشريد والاحتلال والبغاء وضياع الحقوق وسرقة وابتزاز مقدرات الأوطان، وتجدد الدمار، والتهميش والإبعاد، وعدم مقدرتنا على صنع حياتنا وكتابة تاريخنا بأنفسنا في صفحات ناصعة بيضاء، واتخاذ القرار كرواد يستحقون الحياة، فالرؤى منعدمة والمستقبل ظلال.

+ رابعًا: غرض النص الأدبي: 

إن الغرض الذي كتبت من أجله القصيدة هو (الرثاء)، والرِثاء هو تِعداد خِصال الميت مع التفجّع عليه، والتأسّي والتعزّي بما كان يتصف به من صفات حسنة كالكرم والشجاعة والبسالة والفروسية والإقدام والعفة والعدل والعقل والرحمة ونصرة الحق والمظلوم، ويتكون الرثاء من أربعة عناصر على الترتيب وهي:

( ١- الاستهلال وحتمية الموت ٢- التفجع وتحديد أسباب الموت ٣- التأبين وذكر صفات المرثي ٤- التأسي والتعزي واتخاذ الميت قدوة ومثال يحتذى به)، والرثاء غرض قديم منذ وقبل العصر الجاهلي، فقد كانت الخنساء ترثي أخاها صخرًا وأخيها معاوية بأجمل عبارات الفجيع، وكلمات التفجع، وظل الرثاء متمشيًّا في عصر صدر الإسلام فوجدنا مرثيات حمزة سيد الشهداء، واستمر في العصور المتتالية الأخرى الأموي والعباسي والأندلسي ووجدنا أبن الرومي يرثي ابنه محمدًا، وفي العصر الحديث وجدنا كثيراً من الشعراء يرثون، ووجدنا من بينهم العقاد يخالف مبدأه ويخالف مدرسة الديوان ويرثي (مَيَّ)، ووجدنا شوقي أمير الشعراء يرثي الأوطان وغيرهم الكثير. 

 فهل قصديتنا ينطبق عليها تعريف الرثاء بهذا الشكل بمقوماته الأربعة؟ 

إن قصيدة النثر الحداثية (الحديثة) وإن كان غرضها الرثاء فهي تختلف عن رثاء القصيدة العمودية الخليلية، فنرى شاعرتنا هنا في كتابتها لقصيدتها لم تتبع عناصر الرثاء الأربعة المعروفة، ولكنها كتبتها بطريقة أخرى مختلفة عن الرثاء القديم، رثاء الأفراد والأشخاص الموتى ومدحهم بما فيهم من صفات حقيقية حميدة،  فقصيدتنا في الرثاء عن حالنا وكربنا العام، عن مصيبتنا الكبرى في فاجعة أوطاننا، وتدمير مقدراتنا وإهدار كرامة الإنسان العربي في الشرق كله، لقد اتخذت شاعرتنا من الرثاء وسيلة لرثاء الحال حال أمتنا العربية وموت مجدها رثاء حال الأوطان، وكشف ما فيه من وبال وخيم، ويصح أن نقول (رثاء الشرق كله).

+ خامسًا: تفسير وشرح وبيان أبيات القصيدة:  

تبدأ الشاعرة حديثها في القصيدة في المقطع الأول بالصلاة في الليل وتخاطب الشرق (حبيبها) فتخبره إنها تفتتح الصلاة، وهي لعيني الشرق النور، وتظل تصلي طول الليل حتى يحين الفجر ويخلع عمامته ويعلن عن الصبح وميلاد الشروق، وفي المقطع الثاني من القصيدة تختتم الشاعرة صلاتها (قصيدتها) وفي عيني الشرق تحول الرماد إلى كحل والدموع إلى غسول، فتتجدد الدماء زرقاء  وليست حمراء في العروق، وفي المقطعين الثالث والرابع تناجي ربها وتشكو له ما يحدث من تدمير وتخريب في العراق بوابة الشرق، وفي المقطع الخامس تخبرنا بالحقيقية إن كل الدروب وكل المسالك والخرائط العربية وخاصة (سوريا) منشأ الشاعرة وبلدها ووطنها وموطنها ليست أكثر حظًّا من العراق تعيش في ظلمات وتموت وتتمدد الجثث بلا أكفان، وفي المقطع السادس تتحدث عن فؤاد الشرق الذي يئن ويتألم ويصرخ وأصبح كالحجر الصوان تحت عجلات العربات الصديقة، فلا عهود ولا مواثيق، وفي المقطع السابع والثامن والتاسع تتحدث عن الشتاء والبرد القارص والمواقد مطفأة وصائمة، فلا دفء ولا طعام ليس إلا الجوع والتشريد وحرائق الدماء والجثث ملأت الجبانات والأجداث والقبور، والغربان ملأت الحقول ولا حصاد فالسيادة أصبحت لدمار الخريف وتساقط الأوراق حتى (القبرات) السوداء سكنت التلال والجبال بالنعيب وصوتها صار مثل نعيق البوم ونعيب الغربان، حتى الغمام في السماء إذا مرت سحابة بددتها الريح الصرصر العقيم العاتية ذات الصيحات العالية التي امتلأت ب (الصرّ) شديدة الحر والبرد التي تحمل السموم، وفي المقطع العاشر تعترف الشاعرة إنه لا يوجد علم ولا راية ولا بيرق مرفرف في الشرق، حتى العصافير هربت وقفلت ورجعت وعادت وغيرت من وجهتها لبلاد أخرى غريبة بعيدة عن الشرق، وفي المقطع الحادي عشر والأخير تتساءل الشاعرة وتطرح سؤالًا مهما مؤداه كيف يحيا الإنسان في الشرق والبلاد العربية كل صباح وكل شروق تضج وتعج بالظلام؟                                                                                                       فالقصيدة تتحدث عن الواقع الأليم الذي نحياه كأتباع وأذيال في غفلة وبلا ضمير، فيسقطنا كل يوم في مستنقع جديد من القتل والتشريد والاحتلال والبغاء وضياع الحقوق وسرقة الثروات وابتزاز مياه الأنهار التي هي الحياة، وتجدد الدمار، والتهميش والقسر والإبعاد والإقصاء الجبري، وقلة ذات اليد وعسر الحال، وتغلب صيحات الأنين، وضياع الحلم وفقدان الأمل، وانفراط العقود ومكث العهود، وكثرة الهزائم المتتالية، وضياع الأوطان وتنكيس الرايات، وانتشار الجهل والظلام، وغياب الدين وكثرة الرماد، وعدم مقدرتنا على صنع حياتنا وتاريخنا كرواد، فالسيادة للخريف، وما حولنا سوى نعيق بوم ونعيب غربان حول التلال والجبال، فالرؤى منعدمة، والرماد يملأ أعيننا، ولقمتنا ليست من يدنا والمؤامرات عاتية، فليس لنا إلا الله والصلاة له لعله يرحمنا ويقف بجانبنا.

+ سادسًا الموسيقا في القصيدة:

تنقسم الموسيقا في القصيدة إلى نوعين: (موسيقا خارجية - موسيقا داخلية).

ـــ أولًا الموسيقا الخارجية الطنانة الجلية الظاهرة في الوزن والإيقاع والقوافي  الخارجية والداخلية، وبعض المحسنات البديعية كالجناس وغيرها، فنجد على سبيل المثال أربعة (٤) قوافٍ خارجية زاهية في نهاية كل مقطع ينتهي بحرف القاف في الكلمات على الترتيب: (الشروق - العروق - البروق - الخفوق) ، ونجد قافيتين تنتهيان بحرف الميم هما (الأحلام - الظلام) - في المقطعين الخامس والأخير) وكلها أتت كدفقات شعورية لا استرسال فيها حتى تستنفذ وتستنزف نفس الشاعرة إلى آخره، ولا يحكمها ولا ينظمها قانون غير الأحاسيس والمشاعر والنبض، ولذلك هي تعد كالمقاطع والتي تتكون من سطور شعرية نثرية، وكذلك الجناس الناقص الذي يعطي نغمة موسيقية تستريح لها الأذن وتشد انتباه السامع وتجذبه وتشحذ الذهن، مثل: (هديل - هدير) ، (غريب - نعيب) ، (الدروب - الغروب) ، (عقود - عهود) ، (سارية - عاتية) ، (فرات - قبرات) ، (ميلاد - امتداد) ، (تتجدد – تتمدد - بدد) ، (مواقد - وقود) ، وكذلك كلمات الإيقاع والوزن أو الميزان والتي تشكل بدورها قوافي داخلية في صلب القصيدة مثل (انفراط - امتداد) ، (الدماء - الزرقاء -  البغاء - العراء - الشتاء) ، (دجلة - وجهة) ، (الحجارة - السيادة - العمامة) ، (عجلات - عربات) ، (رماد - فؤاد) ، (مراتع - مقابر - مواسم - حرائق) ، (الحقول - الغسول). 

ـــ موسيقا داخلية خفية غير واضحة، ناشئة من تضافر الحروف وتناغمها، وتنسيق الكلمات وسلاستها، وتوظيف الجمل، وهرمونية العبارات وانسجامها والتئامها، فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد كلمات أعطى فيها حرف العلة (واي) في وسطها امتدادًا مما أبطأ من سرعة (رتم) وإيقاع القصيدة دلالة على حزن الشاعرة وشيوع مسحة الحزن في كلماتها، وكذلك وجود كلمات تنتهي بحروف متشابهة كالنون والتاء المربوطة واللام مثل: (إنسان - الغربان - أكفان) ، (عامرة - صائمة - قافلة - سحابة  - الغزاة) ، (صديقة - حيلة -  الصغيرة) ، (أخرى - سوى) ، (الهديل - الغسول - الحقول - ترفل) ، وغيرها الكثير، والشاعرة موفقة في استخدام العنصر الموسيقي.

+ سابعًا: الأسلوب في القصيدة:  

ينقسم إلى: (خبري وإنشائي) 

// أولاً الأسلوب الإنشائي، وتمثل في (الاستفهام والنداء):                                   ـــ أسلوب النداء في (رباه) ، وهو أسلوب نداء وحيد في القصيدة، فيه استغاثة وصرخة وندبة، غرضه التعظيم، وكأن الشاعرة تتحدث عن العقيدة باعتبار أن الوحيد الذي سينقذنا مما نحن فيه هو (الرب) القادر على كل شيء ولذلك نلجأ إليه هو فقط. 

ـــ أساليب الاستفهام: 

(كيف يحتضن الفرات البغاء؟)، (كيف يعانق دجلة عند الغروب الغزاة؟)، (فكيف يحيا كائن إنسان؟)، (ما الغريب فالسيادة للخريف؟)... أربعة أساليب استفهامية غرضها التعجب والدهشة والنفي والاستنكار والتوكيد، وحرف العطف (الفاء) الاستئنافية للتعقيب والسرعة. 

// ثانيًّا الأسلوب الخبري: 

ـــ (فؤاد الشرق كالحجارة) تشبيه تمثيلي حالة بحالة يفيد التوضيح.                  ـــ (بلا حصاد)، (بلا أكفان)، (ما عاد في الشرق علم مرفرف) ثلاثة أساليب للنفي تفيد التوكيد.

ـــ (القلب لا حيلة له سوى التوجس) أسلوب قصر أداته النفي ب (لا) والاستثناء ب (سوى) يفيد التوكيد والتخصيص والأهمية والترتيب.                                             ولا يوجد في القصيدة أسلوب خبري لفظًا إنشائي معنًّى.

+ ثامنًا خصائص أسلوب الشاعرة:  

الشاعرة تكتب بأسلوب سهل بسيط منبسط على الفطرة، دون تقعر أو تكلف أو ترصد للمحسنات البديعية، ودون التوغل في الكلمات والألفاظ التراثية الفخمة الضخمة الجزلة الرصينة، فهي تكتب بطبيعتها الأسلوب السهل المبسط الممتنع، بلغة نابضة حية منبعثة من الحياة، معتمدة على عنصر (التناسب بين اللفظ والمعنى)، فإذا كان المعنى فيه شدة كانت الألفاظ قوية، وإذا كان المعنى فيه رقة كان اللفظ  سهلًا رقيقًا انسيابيًّا، ولا ننسى تأثرها بالقرآن الكريم في قولها: (ريح صرصر عاتية)، من قول الله عز وجل: (ريحًا صرصرًا عاتية) أي شديدة، ولنا صوت سورة فصلت الآية (١٦)، ومن قول الله: (وأقبلت امرأته في صرة) أي في صيحة / سورة الذاريات آية (٢٩)، ومن قول الله عز وجل: (مثل ريح فيها صر) أي حر فيه سموم أو برد شديد / سورة آل عمران آية (١١٧)، فإذا حاول شاعر آخر أن يقلدها أو أن يكتب بنفس طريقتها التي تعتمد على العاطفة والإحساس والصدق في الكتابة، وتضمين المعاني للحظة المناسبة تعبيراً عن (حال الشرق كله الذي يعج بالمظالم) لم يستطع وأدرك الصعوبة، وفهم أن ما كان يحسبه سهلًا وبسيطًا في ظاهره فهو في منتهى الصعوبة في باطنه لأنه كتب بصدق ومصداقية وعاطفة جياشة، فالشاعرة من مدرسة (الطبع)، وليست من مدرسة (الصنعة اللفظية) أو من عبيد تكلف الشعر.                                                  ولقد استطعنا أن نرصد من خصائص أسلوبها أربع (٤) خصائص:

ـــ الخصيصة الأولى الاعتماد على الدفقات الشعورية المتتالية حتى يكتمل المقطع، فلم تكتب بطريقة السطر الشعري أو البيت التقليدي، والدليل على ذلك أنها استخدمت حرف العطف الواو الاستئنافية لإظهار حال العرب والشرق بوجه عام على ما هو عليه من تخلف وركود وظلم وظلمات وضعف وهوان وخذلان، وكررته حوالي (١٣) ثلاث عشرة مرة في مقابل مرتين (٢) اثنتين كواو عاطفة واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه في قولها: (التوجس والخفوق)، وفي قولها: (انفراط عقود ونكث عهود)، وكذلك استخدمت حرف العطف (الفاء) للتعقيب والسرعة، وكررته أربع (٤) مرات، وكلها دليل على الدفقات الشعورية المنبعثة من نفس الشاعرة المحترقة على حال الشرق وما آل وسيؤول إليه.

ـــ الخصيصة الثانية اعتماد الشاعرة على ظاهرة التكرار، فقد كررت الشاعرة ألفظاً معينة مرتين اثنتين لدلالة التوكيد مثل: (صلاتي- صلاتي) مرتين، (العين)  مرتين (لعينيك - لعينك) مجرورتين بحرف اللام، و(الدماء - الدماء) مرتين، و(الشرق- الشرق) مرتين، وجمعت المفرد في (الشرق - شروق)، ومنها تكرار حرف الجر (على) ثلاث (٣) مرات كالتالي: (على امتداد - على هدير - على التلال) ، حرف الجر (اللام) تكررت (٤) مرات (لعينيك - لعينيك - له - لوجهة)، حرف الجر ( في) تكرر (٤) أربع مرات: (في الشرق - في الصميم -  في العروق - في العراء)، وكذلك حرف الجر (الباء) تكرر ثلاث (٣) مرات (بحالك - بلا أكفان - بلا حصاد) وكذلك تكرار كلمة (كل) التي تفيد العموم والشمول والاستمرارية (٤) أربع مرات (كل المقابر - كل الدروب - كل شروق -  فكلما)، وكذلك تكررت أداة الاستفهام (كيف) ثلاث (٣) مرات (كيف يحتضن - كيف يعانق - كيف يحيا). 

ـــ الخصيصة الثالثة: اعتمدت على الأضداد التي توضح المعنى وتبرزه وتؤكده وترسخه في الذهن وتثبته في النفس مثل (فاتحة × خاتمة) ، (النور × الظلام) ، (النور × الظلمات) ، (الفجر × الظلام) ، (الفجر × الظلمات) ، (الشرق × الغروب) ، (الشروق × الغروب) ، (الشتاء × الخريف) ، (فوق × تحت) ،عند - بعد)  وغيرها... فاستطاعت الشاعرة أن تلعب على وتر الزمان والفصول والمكان والجهات.

ـــ الخصيصة الرابعة:  

إتيان الشاعرة ببعض التعبيرات المجازية الكبرى العملاقة التي تميز قصيدة النثر الحداثية لتعويض فقدان الوزن العروضي معتمدة على التشبيه أو الاستعارة مثل (يعج به الظلام - العصافير قافلة - ريح صر - مرت سحابة - للقبرات نعيب - السيادة للخريف - الحقول مراتع الغربان - حرائق الدماء - مواقد الشتاء صائمة - تتجمد جثث الأحلام - نعيب يوم - كل الدروب ترفل - هدير وقع البروق - الدماء زرقاء - الرماد كحل - ميلاد الشروق - يخلع الفجر العمامة - فؤاد الشرق يئن - فاتحة صلاتي لعينيك النور - طيف دموع - عربات صديقة).

+ تاسعًا ظاهرة الأفعال في القصيدة: 

عند تحليل واستنباط واستخراج الأفعال من القصيدة واستقرائها واستقصائها وجدناها كالتالي: 

ـــ الفعل المضارع الذي يفيد التتابع والتجدد والاستمرار واستحضار الصورة في الذهن تكرر في القصيدة عشر (١٠) مرات هي (يخلع ـ فتتجدد - يحتضن - ينتفض - يعانق - ترفل - تتمدد - يئن - يحيا - يعج) ثمانية (٨) تبدأ بحرف (الياء) للمذكر، واثنان تبدأ بحرف (التاء) للمؤنث.

ـــ الأفعال الماضية التي تفيد التحقق والثبوت والتوكيد والاستقرار، وجدنا ورصدنا في القصيدة أربعة (٤) أفعال هي: (أهدرت - مرت - بددتها - ما عاد) 

ـــ أما أفعال الأمر فلا توجد البتة في القصيدة.

وعليه تكون النسبة كالتالي: 

المضارع (١٠) / الماضي (٤) / الأمر (صفر)، هذا معناه أن الغلبة في القصيدة للأفعال المضارعة (ضعفين ونصف)، والتي تدلنا على استمرار حال العذاب والدمار والخراب والتشريد في سوريا موطن الشاعرة ورمز الشرق) وإن تحدثت في القصيدة عن مأساة العراق بوابة الشرق) فلن تنسى مأساة وطنها الأم، وكذلك يظهر ويتضح لنا عظمة وروعة شخصية الشاعرة الخلوقة المتواضعة والتي لا تحمل في طياتها أي نوع من الغرور أو التكبر أو الصلف أو الزهو، بدليل إنها لم تأت بفعل أمر واحد، فلم تدّع إنها ملكة أو أميرة أو مطاعة، بعكس قادة الشرق الأشاوس الذين أمروا في كبرياء وصلف وغرور فأطيعوا... وفي النهاية ضاعت ـــ رغم أنوفهم ـــ أوطانهم منهم... فلله در الشاعرة.

+ عاشرًا الصورة الكلية والوحدة العضوية وامتزاج الفكر بالوجدان في القصيدة:  

وإذا تساءلنا هل تحققت الوحدة العضوية في القصيدة؟ وهل امتزج الفكر بالوجدان في القصيدة؟ 

سنجد أن الإجابة ستكون (بنعم) لأن الشاعر الجيد هو الذي يفكر (بقلبه) ويشعر (بوﺟدانه) فتأتي العبارات صالحة لكل زمان وصالحة لكل مكان، وفي أي وقت، وفي أي بيئة حتى عبر الترجمات المختلفة،  وهذا هو ما يسمى (بالشعر الخالد)،  فالصورة الكلية، واكتمال الحديث، وتكامل عناصر التجربة، وانسجام المناخ لا يتم إلا إذا كانت متكاملة كما اكتملت الصور الجزئية عبر المجاز والصور الممتدة والترشيح والترصيع، والكنايات والتشبيهات والاستعارات، وهذا ما فعلته الشاعرة في قصيدتها، فقد ضمت حروفها بجانب بعضها، فتكونت الكلمات بحروف متوافقة ليس فيها تعقيد لفظي أو تعقيد معنوي، فتكوّن النسيج، ومنه العبارات والجمل والأسلوب والشكل والمضمون، أو القلب والقالب، وانصهر الجميع في بوتقة مخيلة الشاعرة فخرجت القصيدة متناغمة مثل جسد الكائن الحي خلية وخلية تكون نسيجًا، ومن النسيج تكونت الأعضاء ثم الاجهزة فالكائن الحي، ومن المفترض في الكائن الحي أن يكون كل عضو موجودًا في مكانه المناسب ويؤدي وظيفته على أكمل وجه ممكن، كذلك السلك الذي يجمع الخرزات ويضمها بجانب بعضها فيتكون العقد بلؤلؤاته الفريدة الخريدة، وكذلك كلمات وعبارات القصيدة ما يسمى (نظرية النظم)، ولقد استطاعت الشاعرة أن تحول قصيدتها إلى لوحة زيتية (جدارية) تعلق على الحائط أو الجدار، وكونتها من أجزاء وخيوط، فوجدنا في اللوحة الزيتية الشاعرة تحدد زمن القصيدة هو (الصلاة) فهي تصلي طول الليل وتدعو الله وتناديه (رباه) أن ينقذ وطنها الصغير (سوريا) ووطنها العربي الكبير (الشرق) متخذة من نهري العراق (دجلة والفرات) معادلًا موضوعيًّا للتفرق والتشرذم والشتات، وجعلت من العصافير التي تفر من جحيم الأوطان وتغير وجهتها لبلاد أخرى، وجعلت من القبرات على التلال بلونها الأسود الكئيب دلالة على الموت والقبور والظلم والظلام ، ومن الدماء الزرقاء في العروق شاهد على القتل والخراب والدمار وضياع الأوطان، فالقصيدة مليئة بالأجزاء، وتتجلى وتتضافر خيوطها في (الصوت واللون والحركة)، فنجد من الألفاظ التي تدل على:                                                                    ـــ الصوت : (هديل - مبحوح - تئن - نعيب - ريح - عصافير - قبرات - إنسان  - صلاتي - هدير - عربات - الفجر): اثنا عشر (١٢) كلمة.

ـــ ومن الكلمات التي تدل على الحركة: (الدموع - عينيك - يحتضن - ينتفض - هدير - ترفل - عجلات - عربات - يخلع - ريح -طيف - دجلة ـ الفرات ـ التوجس - فؤاد - الخفوق - القلب - الغزاة - اهدرت - مرت - سحابة - بددتها - صلاتي - علم - الغربان - مرفرف - ريح - يعج - العصافير - مراتع - قافلة) إحدى وثلاثون (٣١) كلمة.                                                                                               ـــ ومن الكلمات التي تدل على اللون: (عينيك - الدماء - العمامة - كحل - زرقاء - سحابة - القلب - الحمام - الحجارة - المقابر - الحقول - الغربان - التلال العصافير - القبرات - ظلام - سحابة - علم - بحالك) تسع عشرة ( ١٩) كلمة.

وعليه تكون النسبة كالتالي: 

الصوت ١٢ / اللون ١٩ / الحركة ٣١، وهذا معناه غلبة كلمات الحركة على كلمات الصوت واللون وهي (ضعفهما معًا) مما يدل على الحل الذي يحفظ الأوطان من الضياع هو كثرة العمل والحركة.

+ العنصر الحادي عشر والأخير:

(مآخذ على القصيدة): 

النقد الموجه للقصيدة وليس الموجه لذات الشاعرة.

// أولًا: المآخذ التي تخص الشكل الطباعي (القالب) هو:                                                             ـــ عدم وضع علامات التشكيل في القصيدة على بعض الكلمات المنونة مثل: (معلنا - كحلا) في حين وضعتها على كلمات  أخرى مثل (صرٌّ- كلٌ - كلَّما - الشّرق) وغيرها الكثير. 

ـــ عدم وضع علامة الاستفهام في نهاية أساليب الاستفهام الثلاثة الواردة في القصيدة، فيجب الاهتمام بالشكل الطباعي للقصيدة. 

// ثانيًّا ومن النقد الموجه للقصيدة في مضمونها (القلب):                                                         ـــ إنها لم تخضع لنظام موسيقي معين تقرُّه الشاعرة لنفسها غير الإحساس والشعو ر.

ـــ عدم التحدث في القصيدة عن سوريا إلا (ضمنيًّا) مع أن الشاعرة سورية، إلا إنها لم تتحدث عن سوريا بطريقة مباشرة أو تتحدث عن نهري (العاصي والليطاني) كما تحدثت عن (دجلة والفرات) في العراق، فالبلاء والغم في كل ركن من الوطن العربي، وكل بلاد العرب أوطاني... ويحسب للشاعرة طريقة الرثاء غير النمطية التي كتبت بها القصيدة. 


د. معروف صلاح أحمد.

مصر.






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في رواية "عِقد المانوليا" للكاتبة المغربية نعيمة السي أعراب بقلم الناقد عز الدين الماعزي

"العزيف" / نص مسرحي من فصل واحد / الكاتب والمخرج العراقي منير راضي / النص الذهبي الفائز في مسابقة الرؤى المسرحية 1 / السلسلة الثانية 2024 / في إبداع النص المسرحي من الفصل الواحد

{ سيدتان عالمتان بسري } قصة قصيرة / الأديبة الروائية والقاصة السودانية الأستاذة مروة أسامة.