قراءة نقدية في زجلية "لو بيديا لو بالامكان" للشاعرة الزجالة المغربية الأستاذة أمينة كوكاس، الناقد المغربي الأستاذ محمد المؤذن.



* منصة نقدية تفاعلية *

"أوراق نقدية"

مع الناقد المغربي الأستاذ محمد المؤذن، مؤسس ورئيس جمعية كازابلانكا للتراث الشعبي. 


[ قراءة نقدية لزجلية الشاعرة أمينة كوكاس "لو بيديا لو بالامكان" ]

 

زجلية معنونة بعبارة عامية (لو بيديا ؛ لو بالامكان) مركبة  من جزئين (لو بيديا) و (لو بالإمكان)، يمكن اعتبار كل جزء منهما جملة شرطية  بحرف الشرط (لو) غير الجازم والمفيد لامتناع الجواب لامتناع الشرط ؛ تكرر العنوان أربع مرات ليفصل بين أربعة مقاطع ؛ كل مقطع يعتبر جواباً ممتنعاً للعبارة الشرطية المركبة ؛ والعنوان بتكراره تعدى وظيفة العتبة الدالة على التيمة العامة للنص إلى الإلحاح على الدلالة الشرطية المحمولة بالعبارة المكررة، وإلى شد الانتباه إلى ما تضمنه كل مقطع من معان في الزجلية كجواب ممتنع لهذا الشرط الممتنع.

ويمكن اعتبار تكرار العنوان لازمة فاصلة بين تيمات المقاطع الجزئية من جهة، ومحققة لمعنى اللزومية من جهة ثانية ؛ لوجود علاقة شرطية بين القضية الأولى (جملة الشرط)، والقضية الثانية - المقطع الذي يليها - (جواب الشرط) ؛ حيث يتم صدق القضية الثانية على تقدير القضية الأولى. واللزومية معناها عند كبار النقاد «ما حكم فيها بصدق قضية على تقدير أخرى لعلاقة بينهما موجبة لذلك»، 

وهذه العلاقة بين العبارة الشرطية (العنوان) وبين المقطع (جواب الشرط) هي ما أوجبت التكرار الذي أصبح لازمة إيقاعية وعنصراً أساساً من عناصر جمالية البناء الزجلي. 

إنه ترابط ضروري بين اللازمة والمقاطع ؛ وإلا كان التكرار لا فائدة منه في هذه الزجلية. 

الجزء الأول من عبارة العنوان (لو بيديا) يرتبط بمجموعة من العبارات المتداولة - بلهجتنا العامية المحكية - في حياتتا اليومية ؛ كلها تتقاطع في الدلالة على القوة والسلطة والإرادة والحرية ؛ ومنها: 

(الأمر ماشي فيدي) 

(ما فيدوش)

(القضية فاتت يدي) 

(يدو مطلوقة)

(دراعو طويل)

(كثرة الليدين) 

ولفظة اليد هنا كطرف في جسم الإنسان دالة على اليد  اليمنى ( رمز القوة المنفذة)، مع العلم أن القوة الفعلية لا تتحقق إلا بالإرادة القوية للآمر بفعل القوة (الإنسان)، وما العضلات إلا آلات منفذة. فغالباً ما نجد أقوياء جسدياً لكنهم فاشلون بضعف الإرادة والعزيمة ؛ مادامت قوة الإرادة هي المتحكمة في قوة العضلات (قوة اليد)، وخير مثال على ذلك ما نجده في نصوص تاريخية ترتبط بتأسيس مدن ومعالم عمرانية في عهد زعماء سياسيين من ملوك وحكام ؛ نسب إليهم بناء هذه المدن والمعالم العمرانية ؛ لكنهم لم يقوموا بالبناء الفعلي ؛ بل قاموا به بإرادتهم وأوامرهم المطاعة من طرف المسؤولين على بنائها الفعلي من مهندسين وعمال، وما كان لهؤلاء المهندسين والعمال قدرة على البناء الفعلي بالعضلات لولا قوة إرادة الآمر المطاع بالتنفيذ ؛ وهنا نستحضر فلسفة الوجود بالقوة والوجود بالفعل عند أرسطو، فالأحجار وكل مواد البناء  والتجهيز موجودة بالقوة (الهولي)، وما يمكن فعله باليد ليأخذ صورة وهوية وشكلاً منتظماً (مدينة أو معلمة عمرانية) فقد تم بالفعل (فعل البناء)، والفعل لا يتم إلا بالتعشيق (التحكم في السرعة)، أو بحركة في المكان والزمان بعلل أربعة، وهي العلة المادية ؛ والعلة الصورية؛ والعلة الفاعلة والعلة الغائية.

 وهكذا يتبين - بعد هذا الامتناع الذي تفيده كلمة (لو) كحرف شرط غير جازم - أن ما تنوي الشاعرة القيام به في المقاطع الأربعة من الزجلية موجود بالقوة، لكنه لن يتحقق بالفعل لعدم وجود العلة الفاعلة لوجود (موانع) بعضها مستحيل التنفيذ وبعضها ممكن ؛ لكن فعله يتم بيد أو بأياد أخرى، وليس بيد الشاعرة.

وهنا نستحضر إشكالية الأيادي المانعة (يد السلطة السياسية - يد القانون - يد العقيدة - يد المجتمع - يد الأنساق الثقافية - يد القيم - يد الأعراف....). 

أما الجزء الثاني من العنوان، (لو بالإمكان)، فيرتبط بثنائية (الممكن / المستحيل)، فما هو ممكن بالقوة مستحيل بالفعل لوجود مانع حاضر (سلطة - قانون - أعراف - عقيدة...)، أو مانع له القوة المطلقة (عالم الغيب والشهادة) هو واجب الوجود (الله) ؛ يستحيل مع وجوده الإمكان، ويصبح الفعل فوق طاقة الفاعل البشري ؛ لأن فعله لا يتم إلا بمشيئة الله الخالق، ولا قدرة للإنسان المخلوق على فعله. 

وهذا يحيلنا على طرح بعض الأسئلة منها: 

ما هو الشيء الذي ليس بيد الشاعرة، أهي السلطة أم القدرة، أم الجاه، أم شيء آخر؟

وما هي الممكنات التي يستحيل القيام بها لسبب من الأسباب؟

* المقطع الأول:

[ لو بيديا

لو بالامكان

نوقف سفينة الزمان

نرشف الصمت ساعة

من فنجان

نقرا طالع الحال

نفرز رموز الوشام

المنكوش فشلا سواني

المرصع موزونة

فالزرابي 

المبثوثة فكل مكان ] 

في هذا المقطع علامات سيميائية رامزة إلى ما هو مستحيل بالمنطق وممكن بالخيال (المجاز). 

الزمان لا يعود إلى الوراء ولا يتوقف لأنه يرتبط بالمكان وبالحركة ؛ فارتباط الزمان بالمكان ارتباط تلازمي، لأن المكان قابل للتغير والتغيير سواء أكان محدوداً بمساحة مسيجة أو فضاء مفتوحاً ؛ فتغييره لايتحقق إلا بمرور زمن معين. 

الغابة كفضاء يتغير من حالة إلى حالة ؛ تنمو بعض الأشجار وتسقط الأوراق بمرور الزمن الذي يرتبط بدورة الأرض حول الشمس (تعاقب الليل والنهار وتعاقب الفصول الأربعة)، فتوقيف الزمان مستحيل مع عدم القدرة على توقيف الأرض عن الدوران ؛ ولايمكن توقيف المراحل العمرية للكائنات الحية ؛ فكل مرحلة لها خصوصياتها (البلوغ / الزواج / الإنجاب / التكفل بالبناء / الشيخوخة / الموت) لتكتمل الدورة المرتبطة بدورة وحركة الكون ؛ فلو توقف الزمان لتوقفت سلسلة المراحل العمرية ؛ ولو توقف  الزمان لقامت القيامة. 

السفينة رمز الترحال من مكان إلى مكان في زمان معين تقطع مسافة معينة، وبين نقطة الانطلاق ونقطة الوصول تتغير المنظورات.

فهل الشاعرة ترغب في توقيف الزمان داخل البحر؟(الزمن البحري) فيتوقف الماء عن تغيير حالته من الحالة السائلة إلى الحالة الغازية (البخار) ويعم صمت الأمواج؟

وهل يمكن قراءة الطالع، وكذلك فرز رموز (لوشام) بعيداً عن العلم والمنطق لأن ذلك يعتبر من علم الغيب

ونرى الشاعرة بالعبارة (العنوان) (لو كان بيديا لو بالإمكان) لا يسعفها الخيال ولا المجاز للقيام بالممكن واللا ممكن، لأن ذلك في اعتقادها فوق الخيال والمجاز ؛ وفوق ما هو معهود عند الشعراء ؛ بحيث يتحدى الشاعر القوة الخارقة والمستحيلات ويخلق من اللاممكن مممكنات.

ونراها مرتبطة إلى حد الإعجاب بالتراث الشعبي وبعض الأنساق الثقافية منها ظاهرة الوشم باعتباره زخرفة وفناً كانت تتزين به المرأة قبل أن  يصبح مؤشراً على عقوبات سجنية.

وحضر التراث في هذا المقطع من خلال  الصناعة التقليدية المجسدة في صناعة الصواني النحاسية والفضية وزخرفتها بنقوش رائعة، والصينية رمز تلاحم واجتماع الأصدقاء والعائلات لارتشاف الشاي ؛ وللشاي طقوسه الخاصة في الزمن الجميل قبل أن يصبح تحضيره من اختصاص المرأة في المطبخ تقدمه جاهزاً للضيوف ؛ ثم الزخرفة بالمزونة في صناعة الزرابي المبتوتة في كل مكان داخل الوطن وخارج الوطن. 

وتذكرنا الشاعرة بظاهرة العِرافة (بكسر العين) والشعوذة، وهي من المعتقدات القديمة. 

* المقطع الثاني:

[ لو بيديا لو بالامكان

نفك طلاسم البهتان

المخفي فالتبسام

وزين لكلام

نقلع جدور الشر

الراكد فالنفوس 

بحد السنان ] 

هذا المقطع يجسد الرغبة الشديدة للشاعرة في نبذ بعض الظواهر الاجتماعية والسلوكات الفردية المتمثلة في البهتان والكذب والنفاق والخداع والخيانة ؛ من أجل المصلحة والتستر تحت الابتسامات المزور، ولعل التخلص من هذه الظواهر والسلوكات يرتبط باقتلاع جذور الشر، والكلمة الطيبة، والتحلي بالفضائل والخصال الحميدة.

* المقطع الثالث:  

[ لو بيديا لو بالامكان

نغير مكاني والعنوان

نسيح

فأرض الله الواسعة

نشلل روحي من صداها

نزهد نعبد

نذكر الرحمان

زادي نجيمة مبشورة

وبدر هيمان

لحافي ربيع خضر

وغطايا سما صافية

بلا غيام

نبني خيمة من ايزاري

نعانق الحرف الولهان

ننظم قصايد

بقوافي وقوام

نوصف لعذارى

من لحلام ] 

في هذا المقطع إشارة إلى الخروج من الواقع والرحلة بالذات إلى الطبيعة الطاهرة (أرض الله)، وذلك بعبادة الله إلى حد الزهد (التصوف) وغسل الروح من صدإ الحضارة المزيفة ؛ وغسل الروح يوحي بفريضة الحج المطهرة من الذنوب. 

بناء الخيمة من إيزار أبيض؛ الإيزار رمز الصفاء والنقاء،  

المقطع في تيمته العامة يوحي بأن الدنيا زائلة، وأن الإنسان مصيره الفناء، وأن الهدف من الحياة عبادة الرحمن، وفعل الخير أساس السعادة في الدنيا والآخرة، وأن السعادة كذلك متجلية في العلم والإبداع وكتابة الشعر. 

* المقطع الرابع:

[ لو بيديا لو بالامكان

نزرع المحبة

شجرة لوز

بروحي نرعاها

نسقيها 

نقطف غلاها

نلون فم الصبيان

بلوان ماتشبه لوان

زاهية حب

ضاوية سلام ] 

هذا المقطع يرتبط بالحب، فالمحبة أساس الأمن والسلام، والمحبة ينبغي أن تكون من الأهداف المسطرة في البرامج التعليمية وفي التعامل بين أفراد الأسر والعلاقات الاجتماعية. 

القصيدة بمقاطعها الأربعة تحت العنوان (لو كان بيديا لو بالإمكان) هي رسالة مشفرة إلى من بأيديهم القيام بما أن الشاعرة عاجزة عن فعله بيدها. 

هي رسالة إلى من لا يقدرون المسؤولية ولا يفكرون في مصلحة الوطن وهم يعلمون  أن الدنيا دار آيلة للسقوط.

القصيدة كسرت فيها الشاعرة بعض أشكال بناء القصيدة الزجلية الأصيلة المبنية على إيقاع موحد (فراش ؤ غطا) مثلاً، وهي بذلك تكون قريبة من القصيدة الزجلية النثرية  العامية.

القصيدة متضمنة لأفكار فلسفية وحكم بليغة تدعو إلى التأويل التأليفي المتعب، وكل التأويلات مؤدية إلى الطريق المسدود أمام تعدد الموانع والمستحيلات في اعتقاد الشاعرة.  

* القصيدة:

{ لو بيديا

لو بالامكان

نوقف سفينة الزمان

نرشف الصمت ساعة

من فنجان

نقرا طالع الحال

نفرز رموز الوشام

المنكوش فشلا سواني

المرصع موزونة

فالزرابي 

المبثوثة فكل مكان


لو بيديا لو بالامكان

نفك طلاسم البهتان

المخفي فالتبسام

وزين لكلام

نقلع جدور الشر

الراكد فالنفوس 

بحد السنان


لو بيديا لو بالامكان

نغير مكاني والعنوان

نسيح

 فأرض الله الواسعة

نشلل روحي من صداها

نزهد نعبد

نذكر الرحمان

زادي نجيمة مبشورة

وبدر هيمان

لحافي ربيع خضر

وغطايا سما صافية

بلا غيام

نبني خيمة من ايزاري

نعانق الحرف الولهان

ننظم قصايد

بقوافي وقوام

نوصف لعذارى

من لحلام


لو بيديا لو بالامكان

نزرع المحبة

شجرة لوز

بروحي نرعاها

نسقيها 

نقطف غلاها

نلون فم الصبيان

بلوان ماتشبه لوان

زاهية حب

ضاوية سلام } 

أبدعت وأجدت شاعرتنا الراقية للا أمينة كوكاس، دام لك التألق والشموخ. 


محمد المؤذن مؤسس ورئيس جمعية كازابلانكا للتراث الشعبي. 

Amina Gougas

Mohammed Elmouadden

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في رواية "عِقد المانوليا" للكاتبة المغربية نعيمة السي أعراب بقلم الناقد عز الدين الماعزي

العاشق الأسود / قصة قصيرة / نعيمة السي أعراب.

أطياف المرايا / قصة قصيرة / الأديب المغربي الأستاذ رشيد مليح.