من المبنى إلى المعنى = دراسة نقدية سيميائية في قصيدة للشاعر المغربي د. محمد الميموني = الناقدة: الدكتورة عتيقة هاشمي / المغرب.
+ من المبنى إلى المعنى +
= دراسة نقدية سيميائية في قصيدة للشاعر المغربي د. محمد
الميموني =
الناقدة: الدكتورة عتيقة هاشمي / المغرب.
= توطئة:
عرف الشعر العربي عامة، والمغربي خاصة، في إطار سيرورته تحولات
كبرى على مستوى الشكل والمضمون، تجاوز تكسير الشكل الهندسي
إلى ظهور موجه إبداعية في النسج تغري القارئ باستكناه جوهر
إبداعيته التي غاصت في عوالم إنسانية وكونية عبرت عن رؤيا الشاعر،
هذه الرؤيا التي تعدت كل ما هو واقعي ومادي وجزئي للأشياء إلى
الحلم، إلى ما فوق حدود العقل والذاكرة، و (الرؤيا بطبيعتها قفزة
خارج المفهومات السائدة) [1] وإن كانت (موارد الرؤية الحسية ذاتها،
هي التي تتكون منها عناصر الرؤيا، ولكن بعد التخلص من سماتها
الجزئية، والحسية، والعقلية... فالرؤيا انبثاق بعد امتلاء، وولادة جديدة
للأشياء... وكشف للحقيقة بعد بحث طويل في الظواهر) [2]، نفهم من
هذا القول أن الرؤيا هي التقاط شعري وجداني للعالم يتجاوز الظاهر
إلى الباطن، تنصهر فيه تجربة الشاعر بتجربة المتلقي، باعتباره مشاركاً
في رؤيا الشاعر، حيث يتمكن هذا المتلقي من رؤية ما تحجبه العادة
والمألوف، فيكتشف العلائق الخفية عبر لغة تحيل على عالم خاص
يمتزج فيه الرمز بالأسطورة، ومعان خلاقة وتوليدية لا سردية وصفية،
فالرؤيا كشعر جديد، تعبر عن قلق الشاعر الإنسان، وعن كينونته في
معانقة مشكلاته، وبالتالي تتوطد الصلة بين مخيلته وقدراته الإبداعية
وبين السيرورة التاريخية الإنسانية.
تبدو قصيدة الرؤيا بالنظر إلى ارتقائها على الشروط الشكلية، ورغبتها
أكثر في الحرية غامضة ومترددة، غير أنها تتميز بوحدتها العضوية،
وواقعيتها الفردية التي يصعب تفكيكها، إذ ليس (لهيكل القصيدة
واقعية وجمالية إلا في حياة القصيدة، في حضورها كوحدة وكل) [
3]، ثم إن المبدع الأصيل لا يقدم أفكاراً، وإنما يقدم رؤيا، ولا يكون شاعراً
(إلا إذا كانت رؤاه الشعرية جامعة، فخلق الشعر ينبغي أن يكون صورة
ونظرة في الخلق كله) [4].
قاد هذه التجربة الشعرية الجديدة في العالم العربي عدد من الرواد
تنظيراً وتطبيقاً، منهم أدونيس، والبياتي، وصلاح عبد الصبور، ومحمد
الصباغ، ومحمد السرغيني، وعبد الكريم البطال، وغيرهم كثير، ويظل
محمد الميموني من الرعيل الأول، من طلبة الدرس الفلسفي في
المغرب، مثلما هو رائد من رواد القصيدة المغربية المعاصرة والحداثية.
فماهي الرؤيا التي يصدر عنها في علاقته بالعالم؟ وماهي دلالاتها وتمظهراتها في شعره عامة، وفي ديوانه (بداية ما لا ينتهي) خاصة؟
ثم كيف عبر عن قلقه الوجودي متجاوزاً تجربة الذات إلى تجربة إنسانية أوسع؟
هذا ما سنحاول الوقوف عنده في تحليلنا لقصيدته التالية:
(كنت كلما
انفردت همست لي رؤيا
فأستجيب
طوعا
ويبتدئ
الحوار،
أداعب بركة
الصمت بحصاة
صغيرة
خفية
على سبيل
البدء بالتحية
فيبتسم
الماء لي
ابتسامة
تنداح حتى تشمل البركة
والضفاف،
من عمق
بركة الرؤية
نبأني
اندياح وجه الماء
وتوالد
الدوائر،
بلا نهاية
امتداد الكون والعوالم
دائرة إثر
أخرى
إلى ما لا
نهاية،
ومن عمق
الدوائر
ينبثق
نهاري
أرى ما لا
يسمى
كظلي يغوص
ويطفو
في البركة
من دون
بلل
كأنه لم
يمسسه ماء) [5].
= عنونة
الديوان وجزأيه الأول والثاني:
أبادر إلى القول إن الطريقة المنهجية التي سأتناول بها قراءة
القصيدة، ستأخذ بعين الاعتبار خصوصيتها، فهي تندرج ضمن ديوان شعري صدر بُعَيْد وفاة صاحبه، وهو ذو طبيعة فلسفية عميقة يصدر عنها الشاعر، ذلك أنه كتبه في مرحلة استثنائية من حياته، إذ ضمنه التأمل المفتوح على اللانهائي والمطلق، وكأنه يدعم به سيرته الذاتية التي صنفها في كتابه (كأنها مصادفات).
يحمل الديوان عنوان (بداية ما لا ينتهي)، وقد صدر عن منشورات "باب
الحكمة"، تطوان، المغرب، طبعة 2017، وهو من الحجم المتوسط،
يتكون من 178 صفحة، ويقع في جزأين، ويضمهما
مجلد واحد.
من الملفت للنظر ان العنوان يحظى بأهمية متميزة في الدراسات
النقدية المعاصرة بالنظر إلى علاقته بموضوع النص، ثم إنه أولى
العتبات النصية التي تخلق لدى المتلقي رغبة في اقتحام هذا النص
برؤية مسبقة في غالب الأحيان (… فالعتبات النصية علامات دلالية
تشرع أبواب النص أمام المتلقي / القارئ وتشحنه بالدفعة الزاخرة بروح الولوج إلى أعماقه)، ويكفي الرجوع إلى كتاب "العتبات النصية" لجرار جنيت للوقوف عند أهمية العنوان، باعتباره عتبة أساسية يتعذر الإمساك بأبعاد النص ودلالاته دون التوقف عنده.
وعنوان ديوان محمد الميموني (بداية ما لا ينتهي) يحيل على تيمة
الزمن اللامحدود واللامتناهي، فما لا ينتهي يرمز إلى ما هو أكبر من
النهاية، ويشرع الباب على إشكالات كبرى، إذ ماذا بعد اللانهاية؟ ليتخيل
المتلقي أن ما ينتظره بين سطور قصائد الديوان سيضطره إلى الكشف
عن عالم يظلُّ أبداً في حاجة إلى الكشف [6]، لكون العنوان يعبر بلغة
غير مألوفة عن عالم غير مألوف، لغاية تخص رؤية الشاعر وتجربته
الوجدانية.
ويعزز تفسيرنا هذا، عنْوان الجزء الأول من الديوان (دوام اللانهاية)، حيث
احتفى الديوان ببداية أبدية مطلقة لا نهاية لها، بداية متعددة
ومتجددة، تنفتح على الخلود، مما يجعل النهاية عند الميموني في
ديمومة واستمرارية لا نهائية، ومقرونة بفن الشعر الذي يظل خالداً،
ومَخَلِّدا لذكرى الشاعر، ولدفقه الشعوري والوجداني المطلق يقول:
(لن أنتهيَ من هذه البدايةِ
ولن أرى النهاية) [7].
إن الدارس للديوان إيقاعياً سيلفي أن الشاعر اعتمد فيه بحر الرجز، وهو
من بحور الشعر العربي، بحر أحادي التّفعيلة، ويتأسس على تكرار
(مُسْتَفْعِلُنْ)، وتسمى القصائد التي ينظمها الشاعر على بحر الرجز، أراجيز
ومفردها أرجوزة، والرجز عند العرب، دَاءٌ يُصِيبُ الْإِبِلَ فِي أَعْجَازِهَا
فتضطرب أَفْخَاذهَا، وترتعش عِنْدَ الْقِيَامِ، لذلك أطلق على هذا البحر من
الشعر رجزاً، حيث تتوالى فيه الحركة والسكون، في حركة تشبه ارتعاش فخد الناقة حين تصاب بالرَّجز [8]، ولعل هذا ما دفع الميموني إلى أن يُعَنْون الجزء الثاني من الديوان بـ (أراجيز في مقام الدنو)، يقول:
(ألستُ
ابنَ سلسلة أجداد
أُولِعوا
بنظم كلّ علومهم
على إيقاع الرجَز الرشيق؟
لِم، إذن،
لا أرْجِز تواريخي
أوجِزها
في بضع لمحاتْ
كما تبدو
لي من خلال ما
تداول
الأسلاف
منذ مشرق
اليوم الأولِ
وما تلا
مِن الأجيال والأحقابْ
وعن أيام
متداولات بين الناس
تداول
الوجوه في المرايا) [9]
= أيقونية
القصيدة:
إن اختراق المفاهيم لمحاورة جماليات المكنون الشعري، لا يغدو أن
يكون مجرد خلق لآليات اشتغال المتن، ونحن في محاولة لطرح اشكاليات ترتبط بالإبداع الشعري المغربي، من خلال القصيدة (كلما انفردت همست لي رؤيا) للشاعر المغربي محمد الميموني، والمقتطفة من ديوانه (بداية ما لا ينتهي الجزء الثاني أراجيز في مقام الدنو)، إذ إن القصيدة ليست مجرد فكرة، إنما هي إبداع، وتعبير ومعاناة، وبالتالي سمحت بإمكانية البدء في خلق حوار قائم بينها وبين المتلقي، والشاعر، هذا الثلاثي الذي يتمازج في دائرة حوارية بهدف تقويم العمل الابداعي حتى يقدم صورة كاملة، وغير ناقصة عن مرحلة زمنية معينة بكل تعابيرها.
إن العملية الابداعية لا تتم بمعزل عن الواقع، وإن ـــ كانت بعض
المناهج ركزت على دراسة النصوص باعتبارها بنية مستقلة ـــ وإن كانت
طبيعة الواقع الذي بدأ يعيشه العالم منذ منتصف القرن الماضي طغت
عليه الصورائية التي فرضتها طبيعة التحولات الحداثية، فإن الأدب
عموماً، والشعر خصوصاً، قد تأثر بتلك التراكمات المعرفية والخصائص
الفيزيولوجية للذات البشرية التي تؤكد أن الدماغ البشري أكثر قابلية
وسرعة لتقبل القصيدة الحديثة وتحليلها، وبذلك يكون الشاعر
الميموني قد سعى في قصيدته إلى المزج بين الوظائف اللغوية
للعمل الإبداعي، والوظائف الجمالية الاخبارية التي تؤديها العلائق
الخفية الداخلية والخارجية للقصيدة.
= هندسة
المعنى:
مما لا شك فيه، أن العمل الأدبي سواء أكان شعراً أم نثراً، فهو حتماً
ينطوي على معنى باعتباره خطاباً، ولأن بناء المعنى بشكل منسجم
يشد القارئ إليه، ويضمن تجدد النص عبر علائقه الداخلية وبنياته الخارجية، وتعدد قراءاته، وهذه من خصائص النص الشعري الحديث، ذلك أن هذا الأخير يفسح المجال لأن يشمل النص الواحد متوناً متعددة، تنفتح على دلالات مكثفة.
إن قصيدة محمد الميموني، تندرج في هذا السياق، إذ إنها جاءت حبلى
بالدلالات إلى حد الغموض، مما يتطلب من المتلقي التسلح بترسانة من
الآليات التأويلية للكشف عن ماهيتها، وعلائقها الخفية التي تتأسس
عليها.
وهنا نطرح سؤالاً، إذ أين يتجلى مكمن الإبداع في هذه القصيدة؟ وهل
تمكن محمد الميموني من خلالها أن يعكس تجربته على مستوى
الكتابة الشعرية؟
يفتتح الشاعر قصيدته بالتعبير عن حالة نفسية متأزمة، إذ يعاني الوحدة
والغربة والصمت، وفي محاولة منه لتجاوز هذه الحالة، يوهم القارئ
أنه على وصال طوعي مع رؤياه، كلما استشعر هذه الوحدة، فيخوض
معها في حوار ضمني هادئ، وهو ما يضفي طابع الشعرية على
القصيدة، حيث تلتحم المتناقضات، فالصمت رمز للسكون والجمود في
مقابل الماء الذي يحيل على الحياة بعد أن داعبه بحصاة، فيبتسم ليشمل كل الفضاءات الشاسعة أفقياً (اندياح وجه الماء)، والضيقة عمودياً (البركة) حيث تحدها الضفاف.
نلحظ أن رؤيا (حلم) الشاعر هنا قد دفعته إلى اختراق المألوف من أجل
إنتاج دلالات لا مألوفة عن طريق أنسنة الطبيعة، وتحويل اللامحسوس
إلى محسوس، وهذا هو جوهر الشعرية في القصيدة العربية الحديثة،
ذلك أن الشعرية هي (العلم الذي يتجاوز الأدب الحقيقي إلى الأدب
الممكن، بعبارة أخرى تُعْنَى بالخصائص المجردة التي تصنع فرادة العمل
الأدبي)، ولأن الشاعر محمد الميموني اعتمد لغة الانزياحية، فقد جعل
النص يتناسل دلالات لا متناهية، تزداد عمقاً حين ترتبط بالنبوءة، حيث
اتساع صفحة الماء، وتوالد الدوائر إثر الدوائر عبر امتداد الكون، دوائر
بعيدة المدى وعميقة، يقول:
(دائرة
إثر دائرة
إلى ما لا
نهاية
ومن عمق
الدوائر
ينبثق
نهاري) [10]
ولعلها مركز رؤياه وحلمه، يبحث من خلالها عن توازنه وكماله النفسي
من جهة، ولعله من جهة ثانية أراد إبلاغ المتلقي بأنه محصور ضمن
محيط مخروطي دوراني لولبي، وإن حقق له توازنه، غير أن هذا الطرح
سرعان ما يتلاشى لدينا مع نهاية القصيدة، ذلك أن استعانته
بالدوائر كشل هندسي إنما يرمز بها إلى الأبدية باعتبار أن لا بداية لها ولا نهاية،
وأنه يخرج منها دون بلل لنكتشف أنه كان في مناجاة مع ظله الذي
يغوص ويطفو في البركة لم يمسسه ماء.
= بلاغة
الصورة الشعرية:
تعد الصورة الشعرية في مزجها بين اللغة والخيال، تركيباً لغوياً لتصوير
معنى عقلي وعاطفي متخيل لعلاقة بين شيئين يمكن تصويرهما
بأساليب عدة، إما عن طريق المشابهة، أو التجسيد، أو التشخيص، أو
التجريد، وترتبط الصورة ارتباطاً وثيقاً بالجانب الحسي، فتكون نسخة من
الأشياء المحسوسة، ويمكن أن تكون فكرة ذهنية من صنع الخيال، أو
مجرد شكل من أشكال التزيين البياني، لهذا يمكننا القول بأن الصورة
الشعرية هي خلق وإعادة خلق في الآن ذاته، فحينما يطبع المبدع
أعماله بانزياحات عن المألوف في لغة الخطاب يكون هناك خلق، ولَمَّا
يُعمِل المتلقي ذهنه، فيغوص في أعماق الفكرة، ويتماهى مع
مدلولات الشيء، تتعدد الرؤى ويكون لكل قارئ نصيب في تشكيل
الصورة كما يراها هو، ويكون ذلك بمثابة إعادة خلق، فتتولد من
الصورة صور، فتحتمل اللغة أكثر من توقع، وتصبح الصورة في ملك
الخيال والتخييل.
ولقد فطن شعراء العرب إلى أهمية الصورة، فوظفوها بلاغياً في الشعر منذ القديم (التشبيه، المجاز، الكناية، الاستعارة...)، لكنها ظلت حبيسة الجانب التخييلي في القصيدة، لا تفارقه سوى لكونها تشكل علاقات متداخلة تستدعي إعمال الفكر والعاطفة والخيال قصد فك رموزها، من هنا اكتست الصورة الفنية في الشعر العربي أهميتها، لكونها تسلط الضوء على المعنى المراد عرضه من جهة، ومن جهة أخرى في الطريقة التي تحقق تفاعل المتلقي مع المعنى الذي تعرضه، فالمعاني شيء كامن لا يظهر إلا في الصورة، ومن الصورة الفنية يستمد الشعر قوته، فقوة الشعر تتمثل في الإيحاء، وبالأفكار مجردةً، لا في المبالغة في وصفها) [11]. وكذلك القصيدة موضوع دراستنا، حيث عَجَّت بصور كثيرة، مزج فيها الشاعر بين صور تقليدية، كالاستعارات (يبتسم الماء / نبأني اندياح الماء / توالد الدوائر...)، والتشبيهات (كظلي)، وبين صور حداثية توليدية كالرمز، تتضافر فيما بينها لتعرض رؤيا الشاعر، على نحو جمالي يكسر رغبته في استحداث خصوصيات فنية تميز بها ما هو حديث عما هو قديم تراثي. في معرض دراستنا للصور الشعرية التي نضحت بها القصيدة، ألفينا الشاعر منح عدداً كثيراً من عناصر الطبيعة مقومات إنسانية جعلتها تنبض بالحياة (الابتسامة والحوار والتوالد)، بل راغبة فيها، هي رغبة في كسر قيد الصمت والجمود للكشف عن رؤية وجودية مزدوجة تتأسس على الانبعاث وغلبة الحياة على الموت، وبذلك يجيب الشاعر، من خلال المزج بين الصور الحسية والمادية، عن إشكالات حضارته العربية، ويدمج ضمنها الحضارة الكونية، مما يعني اقتناعه بأن تطور القصيدة العربية والمغربية على وجه الخصوص لا يقف عند حدود الشكل الخارجي، بل ينبغي أن يكون شاملاً.
= البنية
المعجمية:
ترتبط عملية القراءة والتأويل في النص الشعري بثقافة المتلقي
ومرجعياته، ومدى استيعابه لقواعد اللغة، إن القصيدة موضوع
دراستنا اتجهت إلى خلق حقول دلالية هي نتاج للحالة النفسية التي يعيشها الشاعر، هذه الحالة الصادرة عن ذات تعاني، وتعيش تيهاً في عالم الموجودات، وقد توزع معجم القصيدة بين معجم دال على الرؤيا (الرؤيا / الرؤية / نبأني / أرى)، وبين معجم دال على أفضية مكانية (بركة / ضفاف / الكون / العوالم)، وآخر دال على الطبيعة (الماء / حصاة / الدوائر/ النهار).
نلحظ أن الحقول المعجمية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحالة الشاعر، إذ تمثل
الطبيعة مصدر حنين له، فمنها ينبثق وجوده، بينما تشكل الأمكنة عنصر
صراع يتجاذبه، فهو يغوص ليطفو فيها من جديد، ويمكننا أن نكثف
هذه الاستنتاجات في الترسيمة التالية:
(الرؤيا ـــــــــ
ممارسة ـــــــــ الوحدة ـــــــــ الطبيعة
ـــــــــ
يتضح من خلال العلاقة القائمة بين مكونات المعجم الشعري، وتفاعل
حقوله (الرؤيا، المكان، الطبيعة) على مستوى توظيف الشاعر لها،
والطريقة التي عرض بها الرؤيا الشعرية وامتداداتها في الواقع، أنها
تخالف المألوف، وتنفتح على عالم يسوده الغموض، ليكشف خباياه عبر
رموز مكثفة بالإيحاء حيث ينبثق من عمق الدوائر نهاره، فيرى ما لا
يسمى شبيها بِظِلِّه وليس ظِلَّه.
= البنية
التركيبية:
لقد رام الشاعر في قصيدته الوصول إلى منتهى الإبداع بلاغياً وتركيبياً
من خلال الأساليب البلاغية، التي تضفي على النص الشعري نوعاً من
الحركة التي شكلت عنصراً مهما أسَّس عليه بناء قصيدته، وقد تولدت
هذه الحركة من استعماله فعلَ المضارع الدال على الحاضر الذي يهيمن
على القصيدة، وهو ما يبرز أن الشاعر يقدم تجربته الوجدانية لحظة
وقوعها، وقد جاءت على لسانه، ومن المؤشرات الدالة على ذلك، قوله: (أستجيب / أداعب / يبتسم / ينبثق / أرى / يغوص / يطفو)، كما أنه يستشرف عبر زمن الحاضر مستقبله (توالد الدوائر/ ينبثق نهاري)، زيادة على كونه وظف مجموعة من الجمل الخبرية، التي تستمد خصوصيتها من العلامات الدالة عليها في البنية التركيبية، وقد سعى من خلالها إلى إخبار المتلقي بدواخله وانفعالاته، وهو ما منح النص بعداً جمالياً ودلاليً (همست لي رؤيا، فأستجيب طوعاً / نبأني اندياح وجه الماء... بلا نهاية امتداد الكون والعوالم...)، ثم إن الشاعر قد استعان بجمل خبرية منفية تقوم على دحض الفكرة، وتثبيت الفكرة المضادة، حيث استخدم أدوات النفي في النص الشعري لتحقيق أهداف معينة يتقصدها من تركيبها، كقوله: (إلى ما لا نهاية، ما لا يسمى، لم يمسسه...)، إن استعمال هذا النوع من التراكيب يجعل المتلقي يستوعب أن الشاعر يرغب في تأكيد نقيضها من الدلالات.
= البنية
الإيقاعية:
إن الشعر، باعتباره يقوم على عنصر الإيقاع، فإنه يطرح تصوراً آخر في
شُغْل الفضاء المادي الطباعي، حيث تتجاوز الكلمات حدود اللغة لتتمثل في شكل هندسي يشغل بياض الصفحة ليساهم إلى جانب المضمون في إبلاغ التجربة الشعورية لدى الشاعر، لقد أصبح الشاعر الحديث مهندساً وفناناً تشكيلياً، إذ زاوج بين بناء المعنى بواسطة اللغة، ويقدمها في قالب تشكيلي مثير، وبين نظام الأسطر الشعرية المتفاوتة الطول والقصر، والناتجة عن الدفق الشعوري، واعتماد التفعيلة بدل البحر الشعري كوزن، وبالتالي تكون البنية الايقاعية للشعر العربي الحديث قد شكلت تجديداً إيقاعياً في العمل الإبداعي، حيث رسمت ملامح جديدة للقصيدة المغربية خاصة، وهي تستجدي تقنيات اشتغالها من الملفوظ الشعري الغربي بحكم التجاور الجغرافي، وباستقائها من مناهج الدراسات النقدية الحديثة. ونخص هنا ما يتعلق بجمالية التلقي والمنهج السيميائي.
تتوزع الأسطر الشعرية في القصيدة موضوع تحليلنا – كما سلف الذكر
ـــ بشكل متفاوت الطول لا يحيل على هندسية معمارية معينة، سوى كونه يشكل مثلثات تغطي أغلب بياضات الصفحة.
|
وإذا ما سلمنا بأن طول السطر الشعري يعبر عن دلالة أيقونية تمتد
بطوله وتنقص بقصره، وهو ما يعطي مؤشراً إيجابياً للمؤول النهائي،
الذي ننطلق فيه من مسلمة مفادها لن تكون هناك قصيدة لو لم تكن
الكتابة، وهو أيضاً ما يولد انطباعاً أولياً بأن الجانب الكتابي هو النص
وحده، أما ما ليس مكتوباً فليس ذا أهمية في العملية الابداعية
الشعرية، وهو الأمر الذي يجعلنا نعطي الأولوية في الدراسة لما هو
مكتوب، في مقابل تلاشي الحيز الذي يشغله البياض.
لكن أليس البياض في هذه القصيدة مؤشراً أيقونياً ذا أبعاد دلالية هو
الآخر؟ خاصة حينما يتعلق الأمر
بالتجربة الشعرية الحديثة.
سوف نحاول أن نقدم تصوراً لعلاقة البياض بالسواد في هذا
النص الشعري (كلما انفردت همست لي رؤيا) من خلال تباين
حضورهما على الصفحة:
محور اعتدال قائم على النفي |
|
+تنـــــــــــا قـــــــــــــض |
+تنــــــــــا قــــــــــــض |
( >سواد) -
محور تضاد - ( >بياض) |
انفعال - محور شبه التضاد - لا
انفعال |
محور اعتدال قائم على الاثبات |
إن طبيعة العلاقات القائمة بين محاور المربع السيميائي [13]، لا تقتصر
على تقريب المعنى فقط، بل تتجاوز ذلك إلى توليد مفاهيم تحدد
العلاقات الممكنة بين العوامل داخل النص وخارجه، في إطار ما يتولد
عنها من صيرورات تتحرك داخل العملية السيميوطيقية متراوحة بين
مظاهر تتسم بالائتلاف تارة، وتارة أخرى بالاختلاف. وبالرجوع إلى العلامة الكلية قصيدة (كلما انفردت همست لي رؤيا)، نلاحظ أن السواد هو المهيمن على فضاء القصيدة، في مقابل تراجع الحيز الفضائي الذي يشغله البياض، وباعتبار (+ سواد) يحيل على مبدأ الانفعال حسب التقابلات المبينة على المربع، فهو يجعلنا نقف أمام أسئلة محورية، من قبيل:
ـــ إذا كان الشكل البصري يدل على معنى نرمز له (أ)، فهل الحالة
الشعورية تدل على نفس المعنى، أم أنها تدل على معنى مغاير نرمز له
(ب)؟ أم أنها تدل على معنى يمتد من (أ) إلى (ب)، أو العكس؟
ـــ وبالتالي، هل الحالة الشعورية المهيمنة على الذات الشاعرة في
هذا النص تقود إلى تبني مفهوم التطابق بين الشكل الخارجي
والمضمون النصي، أم العكس؟
ـــ ومنه، هل، القصيدة تحتمل أبعاداً تراجيدية؟
إن الإجابة عن هذه الإشكالات، تقودنا إلى الوقوف عند عدد من
المكونات ذات الأهمية في إيقاع القصيدة، ومنها علامات الترقيم،
فهي الأساس الضابط للنبر الصوتي في القصيدة الحداثية من خلال
القراءة الجهرية لها، ومن ثم تكتسي أهميتها في السياق العام للنص،
لكن ومن خلال الملاحظة البصرية للقصيدة يتبين غياب علامات الترقيم
هاته، باستثناء بعض الفواصل ويبلغ عددها في الصفحة 142 أربعة،
بينما تغيب في الصفحة 143 باستثناء نقطة النهاية.
إن غياب علامات الترقيم في هذا النص، يؤشر إلى دلالة أساسية ترتبط
بطول الدفقة الشعورية من جهة، واستمرار البعد الدلالي للنص من
جهة ثانية، حيث يصبح الايقاع هو المتحكم في النبر الصوتي بدل باقي
علامات الترقيم (الاستفهام، التعجب، النقطة...)، وهو ما ينعكس على
الجانب التأويلي حيث يصبح النص وحدة كلية.
وبالرغم من كل هذا التحول الذي عرفته القصيدة الحديث، إلا أن ما يثير
الانتباه على مستوى الإيقاع هو ذاك التطور الذي أصاب أسسها
الموسيقية، مما يعني أن الإطار الموسيقي التقليدي، كانت له القدرة
على التوسع، فكل ما في القصيدة جديد باستثناء الأساس الموسيقي
الذي ظل يحتفظ بالتفعيلة في النظم، إلى جانب استعانة الشعراء
ببعض البحور الخليلية الخفيفة كبحر الرجز الذي نظم عليه الشاعر الميموني قصيدته (مستفعلن مستفعلن مستفعلن)، مما يعني أن الشاعر الحديث لم يهدف إلى نسف الأصول الموسيقية الموروثة إلا بالمقدار الذي يسمح له بالتعبير عن انفعالاته وأفكاره بحرية، كالتنويع في الروي، حيث استعان الشاعر بأصوات متعددة (الياء/ التاء/ الميم/ الراء)، كما اعتمد التكرار على المستوى الداخلي (رؤية/ نهاية / دوائر).
= خاتمة:
خلاصة القول، إن قصيدة (كلما انفردت همست لي رؤيا) للشاعر
المغربي محمد الميموني، لم تكن رثاء ذاتياً، بقدر ما هي موقف
وجودي من ثنائية البعث والموت، بل تعبير عن تجربة شعرية انتقل فيها الشاعر من الرؤية إلى الرؤيا التي صاغها بكثافة وجدانية وانفعالية عبر عنها عبر الصور والمعجم والتراكيب التي وظفها، وهو ما جعلها تنطوي على قيم إنسانية عميقة.
ولعل الشاعر وهو ينظمها، كان يستحضر واقع وطنه بلغة رمزية
تجاوزت سلطة الصور البلاغية التقليدية إلى صور حداثية منفتحة
اعتمدت التفعيلة والجملة الشعرية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= سيرة الناقدة:
د. عتيقة
هاشمي من مواليد الدار البيضاء / المغرب.
أستاذة الثانوي التأهيلي.
أستاذة زائرة بجامعة محمد الخامس كلية الآداب والعلوم الإنسانية
الرباط / المغرب.
حاصلة على شهادة الدكتوراه / وحدة التكوين (الإنسان المجال
المتوسطي) / تخصص قضايا وظواهر نقدية وأدبية / جامعة محمد
الخامس كلية الآداب والعلوم الإنسانية / الرباط / المغرب.
حاصلة على ماستر في شعبة اللغة العربية / تخصص التفاعل الثقافي
الأندلسي المتوسطي / جامعة محمد الخامس / كلية الآداب والعلوم
الإنسانية / الرباط / المغرب.
حاصلة على الإجازة في اللغة العربية وآدابها / جامعة ابن طفيل / كلية
الآداب والعلوم الإنسانية / القنيطرة / المغرب.
مديرة عامة
تنفيذية لمجلة الرؤى العربية للإبداع والنقد.
مديرة البرامج الثقافية لمجموعة تأصيل قصيدة النثر الحداثية.
عضوة
الاتحاد الدولي للغة العربية.
عضوة شباب الائتلاف من أجل اللغة العربية.
عضوة
المكتب الوطني لشبكة القراءة بالمغرب.
نشرت لها الكثير من المقالات والدراسات النقدية في مجلات وجرائد
مغربية وعربية ودولية ورقية وإلكترونية.
نشرت لها العديد من القصائد الشعرية مجلات وجرائد مغربية وعربية
ودولية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سيرة صاحب
النص:
هو الشاعر والناقد والروائي والمترجم المغربي محمد الميموني، من
مواليد مدينة شفشاون بالمغرب سنة 1935، وقد توفي بها سنة 2017
عن عمر يناهز 81 سنة. عاش في كنف أسرة محافظة، تلقى تعليمه الأولي بالكتاب (المسيد) الذي شكل محطة مهمة في تكوين شخصيته، ثم انتقل بعد ذلك إلى متابعة دراسته بالمدرسة العمومية إلى حدود الثانوي بمسقط رأسه شفشاون، وبعدها التحق بجامعة محمد الخامس كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، حيث حصل على شهادة الإجازة في الفلسفة، وقد تعلم إلى جانب اللغة العربية اللغة الإسبانية وأتقنها.
اشتغل بعد تخرجه بمهنة التدريس بالدار البيضاء، ثم بطنجة.
يعد محمد الميموني من مؤسسي اتحاد كتاب المغرب، وعضو الفرع
الإقليمي لاتحاد كتاب المغرب بتطوان، كما يعتبر من رواد الحداثة
الشعرية المغربية، وهو من مؤسسي مهرجان شفشاون الشعري سنة
1963، هذا المهرجان الذي يعد شريطاً حياً لمسيرة الشعر المغربي على
امتداد نصف قرن. تتلخص علاقة الميموني بالشعر في ثلاث مراحل
نختزلها في الولادة الأولى، والتي كانت نتيجة مخاض صامت طويل
تجاذبت فيه مجريات حياته الأسرية، والاجتماعية وطموحاته
وانكساراته، ثم الولادة الثانية حيث تحرر من كل تبعية إيديولوجية أو
عقدية، وقد ساهم خلالها في تأسيس حزب الاتحاد الاشتراكي بعد أن
غادر حزب الشوى والاستقلال بداية استقلال المغرب، ثم الولادة الثالثة
والأخيرة، وقد كانت بعد خمسين سنة من الفعل الشعري، حيث يعترف
بأن فناء الشعر مرتبط بفناء الإنسانية كارتباط بقائه ببقائها، وأن الشعر
يولد من لثغة طفل، أو دمعة امرأة، أو صدمة حزن، أو انكسار مهزوم،
أو بشرى فرح، أو انتشاء منتصر، وأن الشاعر لا يشيخ إلا عندما تغادره
القصيدة قسراً، وأن الشعراء وإن شاخوا وماتوا يبقى الشعر، لذلك لم
يشخ محمد الميموني، ولم يمت، وإن وافته المنية.
لمحمد الميموني عدة أعمال شعرية، نذكر منها: آخر أعوام العقم /
والحلم في زمن الوهم، وطريق النهر، وشجر خفي الظل، وصيرورات
تسمي نفسها، ومقام العشاق، وأمهات الأسماء، ومحبرة الأشياء، وما ألمحه وأنساه، ومتاهات التأويل، وموشحات حزن متفائل، والإقامة في فسحة الصحو، ورسائل الأبيض المتمرد، وبداية ما لا ينتهي.
كما له أعمال نقدية وهي: كتاب في الشعر المغربي المعاصر: "عتبات التجديد"، وكتاب في الشعر المغربي الحديث: "سبع خطوات رائدة".
ولأن محمد الميموني أتقن اللغة الإسبانية، فقد ترجم ديوان (التماريت)
للشاعر الإسباني
فديريكو غارسيا لوركا.
لم تتوقف إبداعات الميموني عند هذا الحد، بل أنتج سيرته الذاتية في
شكل مذكرات شخصية، تحت عنوان (كأنها مصادفات) مع عنوان فرعي
تفصيلي: (تداعيات سيرة ذاتية)، وقد استنطق فيها ذاكرته في عملية
استرجاع لمسار جيل كامل طبع خصوبة المشهد الثقافي المغربي خلال
النصف الثاني من القرن الماضي، زيادة على ذلك أصدر الميموني سنة
2015 روايته
(المعلْم الزين) في جزأين.
[1] أدونيس/ زمن الشعر، دار
العودة، بيروت، ط.2، 1978، ص 9.
[2] أحمد الطريسي أعراب، التصور
المنهجي ومستويات الإدراك في العمل الأدبي والشعري، شركة بابل للطباعة والنشر،
الرباط1989، ص. 23.
[3] أدونيس/ زمن الشعر، دار العودة، بيروت، ط.2، 1978، ص 9.
[4] صلاح عبد الصبور، قراءة
جديدة 1982.
[5 بداية ما لا ينتهي، محمد الميموني، طبعة 2017، منشورات باب الحكمة، ص 142/ 143.
[6] رينه
شار
[7] محمد الميموني، بداية ما لا ينتهي، ص. 163
[8] ابن منضور، لسان العرب، باب حرف الراء
[9] محمد الميموني، بداية ما لا ينتهي، ص. 163
[10] بداية ما لا ينتهي، محمد
الميموني، ص 142.
[11]الحيوان، أبوعثمان.
عمروبن بحر الجاحظ، (150-255هـ)، تحقيق عبد السلام هارون، ج3، مكتبة مصطفى البابي
الحلبي، القاهرة، ط1، 1938م.
[12] بيان الكتابة، محمد بنيس
[13] اعتمدنا في تصورنا
هنا على بعض الدراسات التي أنجزها الدكتور محمد مفتاح عارضا لنظرية التقابلات هي:
"أوليات
منطقية رياضية في النظرية السيميائية"، مجلة عالم الفكر، العدد3، المجلد 35، يناير-
مارس،20 .
"دينامية
النص تنظير وإنجاز"، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثالثة 2006.
تعليقات
إرسال تعليق