قراءة نقدية في قصيدة "سلام" للشاعر المغربي الأستاذ عبد الرحمن بوطيب / الناقد المغربي الأستاذ عبد اللطيف بنصغير.
نقد:
قراءك نقدية لقصيدة "سلام" للشاعر المغربي الأستاذ عبد الرحمن بوطيب.
الناقد المغربي الأستاذ عبد اللطيف بنصغير.
أردت أن أتناول بالدراسة اليوم شاعراً من رواد الشعر العربي الحديث في المغرب وفي الوطن العربي، شاعر مثقف من أعلى طراز، دارس للأدب والعلوم الإنسانية بعمق، درس اللغة العربية بإتقان كبير، هو ينثرها بعمق ووضوح وأستاذية مبهرة، بعشق، بعمق، بوضوح، كما لوأنه هو واللغة يعيشان في تساكن حالة حب أبدى، ثم هو شاعر رهيف جداً، متأثر بالواقع والكون، هو شاعر يميل عموماً في قصائده إلى الوضوح الجميل الفتان المريح، هو لا يتعب القارئ بتلك المتون المعقدة، ولكن هو ينشد الوضوح في تواصله، مع الولوج أحياناً إلى الرمز والأسطورة أو الميثولوجيا، وبذلك فهو شاعر كبير متمكن، وصل إلى درجة الريادة، فقصائده نموذجية مبنى ومعنى، صالحة لكل المقاربات النقدية الأكاديمية، هو غير مستعص على الفهم، إلا أنه اختار نوعاً من القراء دارسين مثقفين بما فيه الكفاية ليتواصلوا معه، ثم لا يجب أن نغفل حبه لبلده مسقط رأسه المغرب، فهو عاشق للمغرب عشقاً متجذراً في ثنايا روحه، ثم هو ابن قرى المغرب وجباله وأنهاره، يعشق سماءه وروابيه وتاريخه، هو مغربي حقيقة، ثم هو شاعر لا يتملكه الحزن إلا ليضعه في طريق الأمل، رغم أنه يظهر أحياناً بعض الألم العميق، إلا أنه يميل إلى التطلع لمستقبل أفضل.
دعونا نتأمل قصيدة هذا الأستاذ المعلم في اتنظار عيد ماهو بعيد.
(سلام.
"ليلة عيد ميلاد...
هي السبعون أقبلت".
قصيدة نثرية حداثية.
هذي السبعون منك بك اليوم غداً أقبلت
أمس الآن منك حروف أدبرت
ما الحروف
ما الزفرات
ما السطور
ما تلك منك انزياحات
ما الأحلام كانت ما تحققت
ولو في خيالات
وترتمي في حضن جب حب
تحرق المسافات
تحرقك).
الشاعر يحتفل بعيد ميلاده السبعين في قصيدته هذه. (السبعون منك بك اليوم غداً أقبلت).
الشاعر وصل إلى عتبة السبعين، بدأ يشيخ، أصبح شيخاً والشيخ يكون تأريخاً لبلده، هو يحمل الكثير من الأحداث التي جرت وتجري، من اجتماعية وسياسية واقتصادية، وظواهر سوسيولوجية، ونكبات وأعياد وأحزان وجوائح... إذاً فالشاعر مرجع بلده، ومرجع مثقف يحمل وعياً، يحمل فكراَ يحمل رأياً:
(منك بك اليوم غداً)...
طبعاً هو أثر، وتأثر بالزمن اليوم، وبما سيأتي غداً، هو فعل وفعل فيه: (أقبلت أمس الآن)، هو ممتد في التاريخ منذ ولادته إلى الآن: (منك حروف أدبرت)، فما مضى كتب وأصبح جاهزاً للقراءة: (ما الحروف / ما الفرات / ما السطور...)، بدأنا نتلمس شاعرية الشاعر، تفاعله باللغة ومعها، هو يطرح أسئلة ويدخل بنا في موضوع القصيدة: (ما الفرات) هي آهات تأوهات: (ما السطور ما اللغة / ما تلك منك انزيحات)، الانزياح في اللغة هو قول شيء وإرادة قول شيء آخر، وأحيل القارئ لدراسة الانزياح على "جان كوهن" فقد كتب كتاباً فيه عنوانه إن لم تخني الذاكرة "بنية اللغة الشعرية" والانزياح ليس متاحاً لكل الشعراء، هو مغلق على بعضهم فقط: (ما الأحلام كانت ما تحققت ولو في خيالات)، أحلام الشاعر لم تتحقق، ولو في خياله، إنه التوثر الذي ستولد القصيدة من رحمه: (وترتمي في حضن جب حب تحرق المسافات تحرقك)، تلك الأحلام ارتمت في حضن جب، وهو جب حب وليس كراهية، كما هو مذكور في سورة سيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام، وهو شبه بئر، وهذه إحالة من الشاعر على هاته السورة الكريمة.
وتبدأ المعاناة حينما يقول الشاعر: (تحرق المسافات)، فخيبة الأمل امتدت سنين طويلة حتى أحرقت الأمل، وهو لما قال: (تحرقك)، لم يستعمل أداة تشبيه، وبذلك يصبح التشبيه بليغاً، فكما لو أن الشاعر تعرض للحرق، وهي صورة مؤلمة.
ودراسة الصورة في نصوص هذا الشاعر الكبير ممكنة، فهو يعطي الدارس مساحات فكرية غنية، مثلاً يمكن أن نقوم بدراسة الصورة الشعرية في نصوص الشاعر "عبد الرحمان بوطيب":
(وذا السفين يغازل منك السر الدفين
ما ترتوي دنان
ما يركب البحرَ سطحُ قمر
أحمر).
صورة شعرية مركبة من خيال الشاعر، تعبر عن حالة نفسية شعرية... سفن تغازل سراَ دفيناً، ما ترتوي تشبع من شرب دنان آنية كان يوضع فيها الخمر، ما يركب البحر سطح قمر أحمر... تراكيب لغوية تحيل على صور شعرية، إغراق في انزياحات لغوية عميقة جداً تحيل على حالة من التيه والتأمل المتد في ثنايا الوجود:
(كان لك
ما ترقص فينوس في خوابيك
والقصيدة
وتلك روما رمادُ عنقاء
يمامةٌ زرقاء
وخلف الغاب غاب
ما فتحت منه الزرقاء اليمامة بعضَ أبواب
أياتي الغياب
أترحل تترك الصحاب
قف).
ثم يدخل بنا الشاعر في عوالم الميثلوجيا، وهو علم قائم بداته... فينوس / روما / رماد عنقاء / يمامة زرقاء:
(تمهل
هذي الحروف ما هي لك
إن هي إلا لوطن ورضيع
رضيعٍ يشوي ظهر صقيع
قد جاء في أخبار الأولين الذاهبين في معارج الذهاب
ها سندبادكم قد عاد
لا البغلة معه تحبل بسربروس يعانق أنياب "رع"
وشعاع
يمشي على أرض ما كان يوماً معها في أعالي سماء
"بوسيدون" هو ثائر
ومن "غرب متوسط" رذاذ
"مايا" كسرت نايات
"باخوس" فقد وتينَ رغاف
وهذا الشاعر بين نعاج ضعاف).
سندبادكم / سربروس / رع / بوسيدون / مايا / باخوس /... هذه كلها مصطلحات توجد في الميثولوجيا كما قلت، يجب الرجوع إليها في هذا العلم وربطها بدلالة القصيدة، وهو ما أتركه لدراسة أكاديمية أكثر عمقاً:
(يسافر
في جبة شيخ
يعلو صدرَ أطلس وعذاب
تتهادى من صحائفه سطور
عذروات
وألوان عذابات
وفي القلب رعشة قديمة
قُبلة كانت قِبلة بليلة
أهداها وردة حمراء
رعشتُه الشقراء ولدت له منه
درعةَ
سبو
أمَّ الربيع
بردى
النيلَ
دجلةَ
وذاك البهيَّ الفرات
وما الشابل عاش في حضنك
يا
وطني
رحل إلى جب قصيد
وذا شاعركم نفسَه يعيد
يحلم لكم بفجر وليد
هيهات
هيهات
هيهات
أنّى للجنين من سطورٍ على خدود الكواعب تميد
قالت العرافة
قرأها الفنجان من شاعر
وخرافة
هو اليومَ ديوانُ عيد
زحافاتٌ
عللٌ
أسبابٌ
أوتاد تروح).
عبد اللطيف بنصغير.
Abdelatif Bensghir
المغرب.
تعليقات
إرسال تعليق