روضة ‏النقاد ‏/ ‏الناقد ‏حاتم ‏الإمام ‏الغضباني ‏/ ‏تونس. ‏


 = الورقة الكاملة للحوار العميق مع الأستاذ حاتم الإمام الغضباني، ضيف الحلقة الأولى من برنامج "روضة النقاد" =

        Hatem Limem Ghodbani 


ـــ مجلة "روضة أدباء العرب".

ـــ برنامج: روضة النقاد.

ـــ إعداد وإدارة: الأستاذ عبد الرحمن بوطيب.

                    Abdou Bout 

ـــ الحلقة رقم: 1.

ـــ بتاريخ: السبت 29 ماي 2021.

ـــ الضيف: الأديب الناقد التونسي الأستاذ حاتم الإمام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 = أولاً: الأستاذ "حاتم الإمام" الإنسان والمثقف.


ـــ الاسم: حاتم الإمام غضباني. 

ـــ الصفة الأدبية: شاعر/ قاص/ ناقد. 

ـــ تاريخ الميلاد: 16/12/1963.             مكانه: القصرين / تونس.

ـــ الحالة العائلية: متزوج.

ـــ المؤهلات الدراسية: ديبلوم دولة في البيولوجيا الطبّية/ ثلاث سنوات تعليم عال.

ـــ المهنة: فنّي سامٍ رئيس.

ـــ الفعاليات الثقافية: 

+ أهم المحطات الثقافية:

ــ إدارة الورشة الشبابية للقاصّين الهواة.

ــ مسيّر في الكشافة التونسية (البرنامج المسرحي والأدبي). 

ــ عضو اتحاد الكتاب / فرع القصرين.

ــ المشاركة بعدة أمسيات شعرية وطنياً.

 ــ المشاركة عبر تطبيق زوم في ملتقى عربي حول المرأة.

ــ المشاركة عبر تطبيق زوم في الأيام المغاربية للتراث.

المشاركة في عدة فعاليات جهوية لإحياء تراث جهة القصرين.

+ الإصدارات المطبوعة، والتي هي قيد الطبع:

لا توجد لي اصدارات ورقية مطبوعة.

ــ لي فقط ديوانان الكترونيان.

ــ لي ثلاثة دواوين بصدد التدقيق اللغوي.

ــ لي روايتان بصدد التدقيق اللغوي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= ثانياً: الأستاذ " حاتم الإمام " المبدع.


ـــ الأستاذ " حاتم الإمام " أديب مبدع ثري العطاء، توزعت اهتماماته وأعماله الإبداعية بين الشعر، والقصة، والمقالة الفكرية، والنقد الأدبي.

س 1: ما اللون الذي يغري أديبنا أكثر، ولماذا؟

ج 1:

ـــ في الحقيقة ليس لي نوع معيّن بعينه، حيث إن كتاباتي مختلفة، فيها الوطني، وفيها القومي، وفيها الاحتجاجي، وفيها الفلسفي الوجودي، وفيها الإنساني عموماً، فيمكن اعتبار أن كتاباتي تناشد الإنسانية قاطبة، حيث إنّي لا أسقط في النمطية. 


س 2: أنت بيولوجي يسرقك الأدب من المختبرات العلمية إلى رحاب الفضاءات الأدبية.

ما السر في هذا الانزياح المرصود؟

وهل هناك من تعارض بين المهنة العلمية والممارسة الأدبية؟ 

ج 2:

ـــ لو عدنا إلى تاريخ الشعر، لوجدنا الفيلسوف والطبيب والمهندس والفلكي، ولو بحثنا في يومنا هذا لوجدنا المحامي والفني والصحفي وأستاذ اللغة الانجليزية وأستاذ العلوم الفيزيائية، فأحمد زكي أبو شادي طبيب جراح مصري عرف بالأطلال التي تغنّت بها أم كلثوم، وفي العصر العباسي نجد أكثر من فيلسوف شاعر وشاعر فيلسوف، إذن الأدب برأيي لا يقتصر على فئة معينة، حتى لا نقول بأنّه مهنة أو اختصاص موكول لفئة دون غيرها، فهو بالتالي شغف وإلهام... فالتعارض مع مهنتي كبيولوجي ومع الأدب ككل لا وجود له في حياتي، بل أرى في كثير من الأحيان أني أكتب عن مأساة مريض وآلامه بطريقة شعرية، فأوظف العلم الذي هو (اختصاصي ومهنتي) في نثرية أو خاطرة أو ومضة أو شذرة أو هايكو أو "ق ق ج" أو غيرها، وأعبّر فيها عن الحالة المرضية والاعتلال بطريقة أدبية حسب كل جنس أدبي.


س 3: دواوينك ثرية، كيف تقدم لنا تجربتك الشعرية انطلاقاً منها؟

ج 3:

ـــ التجربة الشعرية هي كالمخاض، تأتي بالآلام، الصيحة، الولولة، ثم الطلق، وقد تتعدى ذلك إلى حد الولادة القيصرية، لتتحسّس في النهاية الأيادي مولوداً طريّ الملمس، ناعماً رطباً، هو النصّ الأدبي.


س 4: القصيدة النثرية عالم مدهش يكسر بنية القصيدة التقليدية،

ما رأيك في هذا اللون الشعري في ظل إكراهات معارضيه، وإكراهات المتطفلين عليه؟

ج 4:

ـــ مؤسس القصيد النثري هو الشاعر الفرنسي "بودلير" سنة 1828، حيث أتى بسردية كادت تكون مارقة عن الجنس الشعري المعروف في تلك الحقبة التاريخية، ومن ثم تم تطوير الشعر النثري في عصر التنوير، حيث برزت عدة شعراء من الغرب، ولكن ما أذكره من تاريخ القصيد النثري المحدث، أو ما بعد الحداثة، هو جنس أدبي تحرري بعيد عن كلّ القيود، فاختياري لهذا الجنس لم يكن اعتباطياً رغم أني أكتب العمودي وشعر التفعيلة... فلأن الشعر النثري فيه انفتاح عميق الرؤى محدث لثورة 

داخل القصيد، خلافاً للشعر العمودي الذي غالباً ما نعرف أغراضه (كرم شجاعة مروءة...)  بمعنى أن مواضيعه بينة ومدروسة، ثمّ إن قيد العروض قد يجعل من الشاعر حبيس أفكاره وتفعيلاته، خلافاً لقصيد النثر الذي لا يعتمد التفعيلة، بقدر ما يعتمد الجرس الداخلي والخارجي للقصيد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= ثالثاً: الأستاذ " حاتم الإمام " الناقد.


ـــ الأستاذ " حاتم الإمام " أديب يسرقه النقد من الإبداع عنوة وعن سبق إصرار، وفيه يتميز ويتفرد بتجربته الخاصة بين منجز التنظير، ومنجز التطبيق.


+ في التنظير النقدي:

س 1: يعتبر تعريف النقد إشكالية معرفية تاريخية تعيش بأشكال متنوعة في كل عصر أدبي، ولا ترسو سفنها في ميناء واحد على تعريف واحد.

ما هو النقد في نظر أستاذنا الفاضل؟ 

وما هو دوره الوظيفي في تطوير الإبداع؟

ومن هو الناقد الحق، وما عُدَّتُه المعرفية اللازمة؟

ج 1:

ـــ النقد هو المرور بأزمنة ثلاثة: القراءة الأولى بمعنى قراءة التلقي الأثرية الانطباعية، ثم القراءة الثانية وهي قراءة صامتة متمعنّة يبحث من خلالها الناقد عن تجميع الأفكار من حيث البناء والتشكيل الفني واللغوي، ثم القراءة الثالثة وهي إعادة هندسة القصيد من حيث البناء والتشكيل والسياق.


س 2: هناك من يرى أن الناقد "قارئ مستبد" يمارس سلطته على حق المتلقي في التأويل، إلى أي حد يمكن تَقَبُّل مثل هذا الرأي المعارض؟

ج 2:

ـــ بنظري أن المنجز حالما ينشره صاحبه يكون ملكاً للقارئ بما في ذلك الناقد، ولكن حق الناقد في التأويل متفق عليه حسب سياق الكلام، وحسب الموضوع المطروح داخل النص الشعري أو غيره من الأجناس، وهنا يكون للنصّ حياتان، حياة مع صاحبه والفكرة التي كان يريد إيصالها، وحياة مع الناقد وتفجيره وتأويله ورؤاه.


س 3: النقد وجهان، وجه التلقي الانطباعي التأثري الذاتي، ووجه الدراسة النقدية المنهجية العالِمة.

ما رأي أستاذنا في "التلقي الانطباعي التأثري" الذي يسم كثيراً من المنجزات القرائية للأعمال الأدبية، خصوصاً في الفضاء الأزرق؟

وهل يمكن أن يعتبر نقداً مشروعاً رغم أنه لا يخضع لمعايير نقدية محددة؟

ج 3:

ـــ القراءات الانطباعية عادة ما تحاذي المعنى الحقيقي، وبخاصة في الشعر الحداثي الذي يعتمد الرمز والأسطورة ويكثر فيه التكثيف، ولكن قد تصيب هذه القراءات في بعض الأحيان مع النصوص المباشرة كشعر الاحتجاج أو الشعر الوجداني. 


س 4: النقد المنهجي العالِم ـــ بكل مدارسه النقدية ـــ هو نقد متعارف على فاعليته وضرورته.

هل يَخْضَعُ أستاذنا " حاتم الإمام " المحترم لسلطة المناهج التي يشتغل بها في أعماله النقدية بكل ما يتوازى مع هذه السلطة من مراحل وإجراءات وأدوات...، أم إنه يمارس لعبة الانفلات من

صرامة التطبيق الحرفي لهذه المناهج فيخضعها لتجربته الخاصة ولطبيعة النصوص 

المدروسة، ولماذا؟

ج 4:

ـــ وجب على الناقد أن يكون ملمّاً بكل المدارس النقدية وبكل المناهج، هذا بالنسبة للنقاد الأكاديميين المتخصصين في الميدان... والنسبة لي أنا عصامي، كوّنت نفسي بنفسي معتمداً على المطالعة والتنقيب في الدراسات، والسؤال، والاحتكاك بكبار النقاد، والتعلم من علمهم... أرى في بعض الأحيان أنّ الالتزام بقواعد النقد والعودة للمدارس والمناهج المعتمدة من أهم الأشياء، وقد أجد نفسي مجبراً، في عدة نصوص عميقة، إلى الذهاب إلى المناهج الأسلوبية أو الشكلانية أو الوجودية أو

المادية أو السلوكية... وقد أجمع أغلبها أحياناً، فبرأيي، الناقد هنا هو على محك، بمعنى أنه هو بذاته موضع نقد، لذا وجب عليه أن يكون ملمّاً بالنقد وآلياته. 


س 5: هل يرتاح ناقدنا لمنهج نقدي معين، أم إنه يشتغل بالمنهج المناسب للنص المنقود المناسب،

وما مسوغ تنوع المناهج النقدية في التجربة الذاتية لأستاذنا الفاضل؟ 

    ج 5:

ـــ أنا، كما سبق أن قلت، لا أتقيد بمنهج معين، فتفكيكي للنص هو ما يفرض عليّ المنهج المعين حسب سياق النص والتشكيل الفني به... ثم ليس لي منهج بعينه أعتمده، فهذا قد يسقطني في النمطية، وأنا بطبعي أتحرر منها.


س 6: النقد المنهجي محكوم بخطوات مرحلية مضبوطة وفق كل منهجٍ من المناهج،

في نظر أستاذنا، وانطلاقاً من منجزه النقدي المتنوع، ما هي أهم الخطوات المنهجية التي تؤسس قراءة نقدية محكمة، وما مدى مشروعية منجز نقدي لا يخضع لبناء مرحلي ممنهج؟

ج 6:

ـــ لكلّ نصّ مفاتيحه، فهناك ما تكون عتبته الأولى الاستفتاح (العنوان)، وهناك ما تكون بيتاً أو بيتين

هما محور القصيدة كلها، وهناك ما يكون حركياً تتابعياً، فيه استبدالات للصور والمشهدية، فلا يدعك

تستقر على فكرة معينة، ولكنك مدعو لتفجيره كله، وهناك نصوص حداثية مغلقة ومشفرة وجب عليك متابعة خيط متاهتها حتى تتكون لديك الفكرة.

 

س 7: النقد "الفيسبوكي" عملة رائجة، تتراوح بين الدراسات الجادة، وبين المجاملات الزبونية.

ما رأي أستاذنا الكريم؟

ج 7:

ـــ عن نفسي أقسمت أن أتعامل مع النص وليس الشخص، ولا يهمنّي الشخص بقدر ما يهمّني النص في أسلوبه وبناء لغته...


س 8: المسابقات النقدية "الفيسبوكية" حاضرة في عديد مجلات، ونحن في مجلة "روضة أدباء العرب" لدينا مشروع طموح لتنظيم مسابقات في الإبداع وفي النقد.

ما توجيهاتك ومقترحاتك أستاذنا الكبير التي يمكن أن توجهنا بها في مشروعنا الواعد هذا؟

ج 8:

ـــ التوجيه الوحيد هو أن نبتعد عن المحاباة، فكلّ قلم هو مبدع... ولكن وجب على لجنة التحكيم أن تكون متجانسة بين أكاديميين في النقد، وبين شعراء لهم صيتهم، فبهذه الطريقة يكون حق الشاعر مضموناً، وكذلك حق الناقد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


= قراءة قصيدة للشاعرة التونسية "جميلة بلطي عطوي" 

1/ النص الشعري: الشّمسُ مُحارة الزّمن.

 

ذاكرةُ الدّفْءِ تُغازلُ الشّمس

تنصبُ أرجوحة الوُصول

على الرّصيف الباردِ

يتمطّى الشّعاعُ

والصّقيعُ بالونةٌ 

تُفرقعُها شوكةٌ مُهملة 

الشّمسُ مُحارة الزّمن

في أذنيها يرْوي حكاياته العجيبة 

منذُ ألف رجفة ورجفة 

يُذيبُ الدّفْء ثلج المَللْ

يكنسُ الظّلّْ

يُمزّقُ شبكة القلق المعلّقة كالعناكب 

على فوهة الانتصارْ

يوقظُ الحِسّ الغائرَ في الصّمت

غُبار الأيّام 

لوثةُ مجنون يعدّلُ السّاعة 

على هواهْ

يُبعثرُ الأوقات... يضحكُ

ثمّ يُعيدُ ترتيبها 

ذاكرة الدّفْء 

تُراقصُ ليْلَ المُسهّدين 

على شُرفاته تعلّقُ القناديل 

نجومٌ على حافّة الوَسَن 

وزُورْبا يَعُدُّ الخُطى 

يقيسُ المسافةَ

يُعِدُّ خيمة 

على الجانبين يُسقطُ الفزّاعات الواهمة 

تتجلّى البحارُ في المَدى 

همسُ المُحارة يُرْجعُ الصّدى 

سفينةُ نُوح والخضمّ

عزفٌ أزليٌّ... نايٌ وقيثارْ

والأنَا للأنَا دِثارْ

أُغنيةٌ مُعتّقةٌ في ذاكرة الحُروف.


جميلة بلطي عطوي.

تونس: 30 / 5 / 2020.


2/ القراءة النقدية:

ـــ العتبة:

جاءت العتبة جملة اسميّة مركّبة، آلت إلى إيصال مفهوم علاقة الشمس بالبشر في المرحلة العمرية،

وأنها هي منبع الحياة والحيوية، وأنّها مصدر الدفء... ولعل هذه منطلق بحث وجودي أرادت من 

خلاله الشاعرة "جميلة بلطي عطوي" بيان أن الدفء الذي تبحث عنه هو داخل محارة، ولعلمنا بأنّ المحارة تنكمش كلّ حين وتتقوقع داخلها... فبالتّالي فإنّها تمثّل الذات البشرية نفسها.                                      

إذا ما سرّ هذا التشبيه، وما الداعي لجعله عتبة القصيد؟


ـــ التوزيع الهندسي للقصيدة:

نصّ نثري أتي في شكل مقاطع تختلف حسب الجمل والمفهوم والموضوع... فأتت قصيرة مقتضبة حيناً، وجملاً متوسّطة الطول أحياناً.


ـــ الموسيقي / الجرس الموسيقي:

أتت القصيدة بجرس داخلي عالٍ، وجرس خارجي يخفت حيناً، ويعلو بعض الحين.


ـــ التشكيل الفنّي:

النص من أربع مقاطع رئيسة، فيها تشابك لمعجم لغوي بين الاستعمالات البسيطة، والبلاغية الموغلة في الترميز والإيحائية... ولعلّ الشاعرة تعمدّت صناعة قصيدتها بهذا الأسلوب لعلمها أنّها قصيدة ذات مبحث يختلف عن القصائد النمطية المتداولة.


ـــ اللغة:

أ/ استعمال أفعال الحركة (ينصب / يتمطي / يفرقعها / يذيب / ينكس / يمزّق / يوقظ/يبعثر / يراقص  

تقيس/ تتجلى).

ب/ الوصف:

ــ الاستعارة (قصة نوح / وأسطورة زوربا).

ــ الجناس.

ــ التناص (زوربا)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

= القراءة:

" ذاكرة الدّفء تغازل الشمس".

تستهل الشاعرة القصيدة بجملة اسمية، ولعلّها مفعول به مقدم لجملة فعليّة في الأصل: "تغازل الشمس ذاكرة الدّفء".

فهذا التلاعب بالألفاظ يولّد لديها هالة من حسن الاستعمال، ومعرفة بأصول المحسنات البلاغية الجميلة، فتقرع جملها الآذان، وتشدّ القارئ لمتابعة القراءة... وهذا من ضمن التشكيل الفنّي الجميل في القصيدة.

لنعود فنقول بأن الذاكرة تغازل أشعة الشمس، لمَ هذا التساؤل؟ ولمَ هذا الطرح بالذات ونحن نعلم أنّ الشمس تطلع كلّ يوم؟

(ذاكرةُ الدّفْءِ تُغازلُ الشّمس

تنصبُ أرجوحة الوُصول

على الرّصيف الباردِ

يتمطّى الشّعاعُ

والصّقيعُ بالونةٌ 

تُفرقعُها شوكةٌ مُهملة 

الشّمسُ مُحارة الزّمن

في أذنيها يرْوي حكاياته العجيبة). 

فذاكرة الدفء تنصب أرجوحة الوصول إلى الرصيف البارد... ها هنا تبدأ الحكاية الشاعرة ترى أن 

هناك من يتحسس البرد، وهو على ضفة الرصيف البارد... أليس هذا ملفتا للانتباه؟ ألم نشعر نحن بذلك الشعور؟ ولكن هذا الشعور مختلف في نظر الشاعرة، فالإحساس بالبرد هو إسقاط على مرور 

سنوات العمر، فالشاعرة ـــ كما ذكرت ـــ تحسن استعمال المجاز اللغوي الجميل... فالدفء الذي يظل في محارة الزمن هو العمر الذي يمرّ ببرده ودفئه ومتقلّباته... تظل الشاعرة تبرز مساوئ غياب 

الدفء، فتصفه ببالونة وقعت في مصيدة شوكة مهملة، وهذه الشوكة المهملة إنّما هي الأيام التي تمر تترى، وإنّما البالونة هي الشاعرة نفسها تصف حالها ومرور السنوات... وهي تبحث عن الاستقرار 

النفسي لتبني نفسها من جديد.

لوحة فسيفسائية إبداعية عالية الدقة والبلاغة والاستعارات، إسقاطات بالجملة أتت لنا الشاعرة بالبديع الفريد منها في هذا المقطع الجميل.

ولكنّ الشاعرة ترى أنه بإمكاننا مجاراة ذلك الدفء الذي سيتغيّب لا محالة، وأنّه بإمكاننا أن نقشّع ذلك الغيم، ونذيب ثلج الملل، ولكن كيف سيحدث ذلك؟ وهل بإمكاننا تغيير الزمن؟ وهل يمكن لنا أن نعود للوراء؟ أسئلة وجودية بحتة.

(منذُ ألف رجفة ورجفة 

يُذيبُ الدّفْء ثلج المَللْ

يكنسُ الظّلّْ

يُمزّقُ شبكة القلق المعلّقة كالعناكب 

على فوهة الانتصارْ

يوقظُ الحِسّ الغائرَ في الصّمت).

فتكسير القاعدة العامة هو ليس خرقاً للطبيعة، ولا للقدرة الإلهية، وانّها هو بالمعافاة... فالشاعرة ترى 

أنه حين المعافاة والشعور بالدفء يذيب الثلج الملل... ولعل الملل المقصود هنا ليس الملل المادي، بل المعنوي، أي الشعور بالكبر ومر السنون.

فيستفيق الحسّ الجميل، ونتمتّع بنشوة الحياة، وليذهب ذلك الصمت المعتّم على حلاوة الدفء...

وهذا أيضا مقطع فيه تلاعب جميل على الجمل، فاستعمال الأفعال الآتية: (يذيب / ينكس / يمزّق...) 

فيه دلالة على التّحدي والفعلية، فهي أفعال تدل على الحركية والديناميكية والاستمرارية... وتعيد الشاعرة ترتيب أفكارها، ولا تعدل عن فكرة الدفء، بل تؤكد بأن الأيام أيضاً لها دخل كبير، وهذا المبحث الجلي في هذا المقطع يدل عامل الزمن. 

(غُبار الأيّام

لوثةُ مجنون يعدّلُ السّاعة 

على هواهْ

يُبعثرُ الأوقات... يضحكُ

ثمّ يُعيدُ ترتيبها).

فدعوة الشاعرة هنا واضحة المعالم، بمعنى أننا وجب علينا إعادة ترتيب أوقاتنا المبعثرة، والنظر لما 

هو آت، دون نسيان عامل الزمن الذي يتحكّم في المصير والمآل... وكأني بها تدعونا إلى الإيمان بالقدر خيره وشرّه.                                                                                                                      

ثمّ تختتم الشاعرة قصيدتها بمقطع فيه من البلاغة ما يشدّ القارئ، ويدعوه للتمعن في الألفاظ والجمل والتراكيب... ها هنا تأتينا بمقطع كخلاصة أو تلخيص لكامل القصيدة، فتنأى وتجنح قليلاً، لتأتي بفكرة 

أن هذا الدفء الأزلي، وهذا الشعور به هو وليد حالة نفسية متقلبة... وتدعو إلى التمعن في الأنا...

بمعني مراجعة النفس، والبحث عن التموقع في هذا العالم بالذات... ولعلها تدعو إلى كيفية صنع الذات من جديد، ونحتها نحتاً قويماً.

(ذاكرة الدّفْء

تُراقصُ ليْلَ المُسهّدين 

على شُرفاته تعلّقُ القناديل 

نجومٌ على حافّة الوَسَن 

وزُورْبا يَعُدُّ الخُطى 

يقيسُ المسافةَ

يُعِدُّ خيمة 

على الجانبين يُسقطُ الفزّاعات الواهمة 

تتجلّى البحارُ في المَدى 

همسُ المُحارة يُرْجعُ الصّدى 

سفينةُ نُوح والخضمّ

عزفٌ أزليٌّ ..نايٌ وقيثارْ

والأنَا للأنَا دِثارْ

أُغنيةٌ مُعتّقةٌ في ذاكرة الحُروف).

فذاكرة الدفء بدت في هذا المقطع مختلفة تماماً عن بقية المقاطع، حيث رأت الشاعرة أننا بالإمكان أن نبحث عن هذه الحلقة المفقودة من الزمن داخل أنّانا، فنخرج من انغلاقنا الذي وصفته بالمحّارة وننعم بالدفء... ولعلّها ساقت لنا، أو دعتنا إلى الرقص على خطى "زوربا" الأسطورة اليونانية،

وتلك الرقصة الشائعة، تدعو فيها للنظر إلى الفارق العمري للبشر، وهل إن الجسد سيستجيب للرقص إذا ما غاب عنه الدفء والحركة.                                                                                       

وتختتم بأن هذا الشعور بالانتصار هو أزلي، عاش مع الإنسان، وسيستمر حالما حاولنا البحث عنه. 

هذه القراءة من المنظور الشكلي والبنيوي للقصيد.                                                                              

أما من ناحية المدرسة النفسية، فالشاعرة تبحث من خلال الدفء عن صناعة نفسها وتسوق ذلك في

أمثلة حيّة، فتراوح بين المدرسة الشكلانية، والمدرسة النفسية، ولا تنسى في ذلك توشيحها للقصيد 

بجمالية الصور والمشهدية العالية.

قصيدها أتى بليغ اللغة جميل الطرح والصور... معتّق فيه استرسال وتمشّي جميل في المشهدية، وكذلك إخراج وقفلة بذكاء شاعرة متمكّنة لها صيتها.

شكري بحجم السماء للشاعرة المبدعة جميلة بلطي عطوي على هذا الإبداع الذي يدهش القارئ.


حاتم الإمام غضباني.

القصرين / تونس: 14/6/2020.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في رواية "عِقد المانوليا" للكاتبة المغربية نعيمة السي أعراب بقلم الناقد عز الدين الماعزي

"العزيف" / نص مسرحي من فصل واحد / الكاتب والمخرج العراقي منير راضي / النص الذهبي الفائز في مسابقة الرؤى المسرحية 1 / السلسلة الثانية 2024 / في إبداع النص المسرحي من الفصل الواحد

{ سيدتان عالمتان بسري } قصة قصيرة / الأديبة الروائية والقاصة السودانية الأستاذة مروة أسامة.