أطياف المرايا / قصة قصيرة / الأديب المغربي الأستاذ رشيد مليح.

أطياف المرايا

مد يده إلى صحن الطعام الباذخ ليأكل ويلتذ بلذاذات الحاضر.لايمكن للمرء أن يأكل فوق حدود قدرة جسده مهما تمادى اشتهاؤه، خمن و بدا له أن مجرد أن يأكل المرء في حرية وسلام، هو منتهى تلك الغبطة التي تشكل نسغ الحياة الحقة، وتمنى لو كان بقربه أولئك الأعزاء الذين غابوا في هدير طواحين الزمن. تراجعت يده، للحظة، من الصحن إلى الطاولة، وكأنما لذغها، بغتة، جموح الأفكار الأسيانة، ثم أخذ يعزف بأنامله في حركة عبثية على الجسد الخشبي. تطالعه، في فضول، صورته المنعكسة على المرايا المضاءة بألوان مختلفة. من يخرج إلى الشارع للتجول في هذه الظهيرة الباردة من يوم الجمعة، لابد أنه يخفي هاجسًا جاثمًا يحاول اللعب معه، بكل مهارة وحدق غريزة العيش، عله يتمكن من تدجينه. لقد أدارت الحياة دواليبها سريعًا، نحو أقصى وأقسى الاحتمالات، فرحلت الأم، على حين غرة، وتبخرت بالتدرج، وعود الإخوة بأن يظل الشمل العائلي ملتئمًا. كان وجهها الصامت، الطاهر، يزوره في أحلامه، فتبتهج مهجته، في لحظة، لطيف روحها، وهو يحس بنفس شعور وجودها في الواقع الذي اندثر. لعلها مازالت حية في لاشعوره، بل كان يؤمن بأنها حية في دواخله، في نبضاته وجيناته، وخلايا دمه، وفي العالم المحيط به، حتى لو صارت لامرئية. "إنها لم ترحل أبدا". يهمس لذاته. لكن فجأة، يستيقظ مفزوعًا، ليخبره الوعي المستعاد بحقيقة الرحيل اللاذعة. ياله من خواء تستشعره النفس وكأنك صرت مجرد حبة قمح متساقطة، منذورة للهباء خارج الحقل الكبير. وجه أمه المشرق، الذي رآه آخر مرة خارج الكفن، وكان يلقي عليه المشيعون آخر نظرة. شعر حينها بعطف صارخ اتجاه جثمان أمه المستسلم للنوم القدري، نازعه التمزق والصمت المكابر، ظلت الصرخة المحتجة على تحولات الكون مكتومة. كان الزجاج الشفاف لباب المطعم، تتراءى، عبره، زخات المطر، التي تتناثر في سكون، وقد عاد لتناول طعامه، وكانت موسيقى فيديو كليب مبتذلة، تسحبه بين الفينة والأخرى من أعماق نفسه. لقد عبرت الأزمنة، ومشيت على رمال الصحاري الحارقة، حتى تصل إلى ذاتك، وحين التفت تساقطت الكثير من الأقنعة، وغاب ضوء اليقين حين غاب الوجه الأمومي الطاهر. كنت تود لو تأخر الرحيل، حتى تقدم الكثير / القليل... الكثير الواهم! مازال لاشعوره يخادعه، حين ينسى ما حدث من فقد، فيهم إلى تشغيل رقم الهاتف للاتصال بالعزيزة. كان من الظاهر، أن منطق قلبه أسبق من منطق العقل والواقع. هل كان طيفها يناديه أن يتذكر؟، لعل الأرواح تلتقي ولو عبر ضفاف النوايا والخواطر. لكن سرعان ما يصدمه واقع الفقدان. مازال لا شعوره لم يتقبل بعد أنها عبرت نحو مقام الأبدية. كان يومًا واحدًا فاصلًا بين كلماتها العذبة، الحانية، وصمتها المأتمي، المهيب. حين زارها، في المستشفى، عند تلك الظهيرة، كان فرحًا متهللًا بنجاح عملية جراحية دقيقة أجرتها أمه. عانقها بحرارة، حدثها، مازحها، وعدها بالمكافأة إن تعافت بسرعة، ثم دون أن يشعر، تهاوت الدموع من عينيه، مستسلمًا، لسلطان الطبيعة الكامنة في الحنايا.
قالت الأم: "لاتبك ولدي الحبيب، إن أطال الله في العمر، فسوف أعود. "لكنها عادت أخيرًا، ملفوفة في البياض. كيف انقلب وضعها الصحي المستقر إلى النقيض، بهذه السرعة العبثية؟! هل خدعته أمه بتجلدها الأسطوري، أمام الألم، حتى أنه كان يظن دومًا بأنها كائن خرافي لا يموت، ولا يجب أن يموت؟!
كل الجراح تبرأ وتنذمل تحت الشمس، إلا جرح خسارة الأم. انحبست اللقمة في حلقه، وكادت تخنقه، فأخذ يكح، ثم تناول كأس ماء.
عدل ربطة عنقه، خلع السترة السوداء باحثًا عن شيء من الرحابة، ليبدد فيها هواجسه وذكرياته. كانت تبدو الأبواب الزجاجية للمطعم، والمرايا التي تحيل على الضوء كما على فعل التلاشي، مثل نطفة جراح كبيرة تترقب لحظة الولادة، عند أول صرخة انكسار. وأحس بأن الزجاج المضيء والمبتهج، يجرحه في الأعماق، لذة الطعام تجرحه، وراتبه الشهري المشرئب، فجأة، عبر شاشة الهاتف،يجرحه. الضوء الذهبي، الضوء القرمزي، الضوء الأزرق، الضوء الأخضر، الضوء الأسود، كانت تتلامع الأضواء في شكل مكثف وصاخب، مشوشة على حواسه. لقد كره المرايا... المرايا لا تضيف شيئًا للواقع، إنها تعكسه فقط، كما يعكس بياض الكفن قانون الحياة في عفويته وتجذره.
تريد أن تهرب من الزجاج... من يأخذ بيدك خارج الباب الزجاجي الطاحن للحم الذاكرة؟ من يسحق هذا الزجاج المترامي كأغلال لماعة؟ من يحررنا من ثقافة الزجاج؟ تقدم النادل بتؤدة منه، بعدما لمح وجهه المحمر في شدة، وجبينه الذي بدأت تتقطر منه ندف العرق، رغم برودة الطقس، وتساءل في مودة: هل أنت بخير سيدي؟ تنحنح الرجل في مكانه، وابتسم كما عادته، محاولًا مداراة حزنه، الذي اكتسح مشاعره بغتة.
حمل السترة، وخرج مسرعًا، قاصدًا أول مقهى قريب... دخل، طلب قهوة سوداء في الفنجان. تلقف جريدة، يتصفحها، هاربًا من نفسه وهواجسها، تطلع، على نحو اعتباطي، إلى أعلى الصفحة الأولى، فلمح تاريخ اليوم... تسمرت عيناه، في دهشة، وهو يغمغم:إ نها ذكرى ذات اليوم الذي رحلت فيه الأم العزيزة. لابد أنه صوتها الخفي كان يناديه، كما أصداء الذكرى، ليتذكر، ليتأمل ثنائية الحضور والغياب. وما أذهله، فعلًا، أن لاشعوره استطاع أن يعيش الذكرى ويستحضرها حتى قبل أن يتذكرها عقله الواعي

رشيد مليح
المغرب
 

 

تعليقات

  1. قصة عميقة الرسالة، تستحضر بعمق ومحبة وألم طيف أم راحلة... لروح الأمهات الراحلات السلام.
    تحكم واضح في بنيات اشتغال النص القصصي وازن.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في رواية "عِقد المانوليا" للكاتبة المغربية نعيمة السي أعراب بقلم الناقد عز الدين الماعزي

العاشق الأسود / قصة قصيرة / نعيمة السي أعراب.