{ نبض السرد } * كل يوم ثلاثاء قصة ماتعة للأديب المغربي الأستاذ رشيد مليح. Rachid Malih - 1/ الثلاثاء 20 أغسطس 2024. [ أكواريوم ]
{ نبض السرد }
* كل يوم ثلاثاء قصة ماتعة للأديب المغربي الأستاذ رشيد مليح.
- 1/ الثلاثاء 20 أغسطس 2024.
[ أكواريوم ]
يشعل حواسي مشهد ذلك الأكواريوم القابع في الزاوية الهادئة بإطاره الزجاجي السميك، وأسماكه الصغيرة زاهية اللون وهي تذرع المحيط الوهمي، إنها ذات الأسماك المحكومة بالعبور عبر مسافة الوهم... هل كان ذوقك الفني، أيها الصانع الماهر، يملي عليك أن تستبدل المحيط اللامتناهي بمحيط آخر مصغر، زائف... وكأنه الحقيقة الوحيدة التي تربى عليها وعي السمك المأسور؟
منذ سنوات، وأنا أتساءل جالساً في مكاني على المقعد... في المطعم الكبير: لماذا لا يثور السمك ضد الأكواريوم؟
سؤال ساذج... ربما ميتافيزيقي، طوباوي...
دنوت من سجن السمك الزجاجي... أرنو إلى الأسماك الصغيرة... وكانت تقترب مني... تقترب لتنظر إلي في ذهول وغرابة... من أكون أنا الآن بالنسبة إليها... سجاناً؟ قاتلاً؟ عابراً؟ شاعراً؟
وضعت أناملي على الزجاج البارد، أتلمس وجه السمكة الطفلة، وكأني سمعتها تتغثغ... ففغرت فاهها، ربما كانت جائعة، وأرادت أن تقضم خيال يدي.. أن تأكل شيئاً وهي تظن أطراف أصابعي طعاماً... علها حسبتني عدواً يتربص بها في محيطها المحاصر، المحصن بالزجاج، أو زائراً غريباً، من سلالة الصانع السجان الذي أقنعها ذات يوم بأن الولادة في الأسر استمرارية للحياة.
ظلت تسبح بين أقرانها هناك... ووسط شجيراتٍ خزيّةِ اللون وحصىً أبيضَ لماعٍ وفقاعاتٍ تتناثر عبر مروحة صغيرة... عدت إلى مقعدي، وقد أرضيت شيئاً من فضولي المهووس.
وأنت تتناول وجبة شهية قد تنسيك، اللحظة، كل التفاصيل وتحررك قليلاً من ذاتك الواعية... والكاتبة... كنت تهمس لنفسك: "من تمرس بالسباحة في نهر الأفكار منذ يفاعته، قد لا يحيد عن ذلك الطبع مهما كبر، ومهما أخذته ملاذات المتع واللذات العابرة".
رأيت نفسك، بغتة، وأنت تدخل فضاء الأكواريوم... تسبح رفقة الأسماك الصغيرة الملونة بألوان فردوسية، عجيبة... تحدق في أطياف البحر... تتذكر تلك النهارات المديدة التي كنت فيها أسير الضرورة لا الاختيار... يوم كنت تأكل ما تيسر من طعام زهدي وبسيط... تأكل لتأكل فقط... تأكل حسبما سمح به جيبك الملاك / الملعون... روائح الشواء، في المطعم القديم، تحتلك من الداخل... تهاجم خياشيم أنفك الفقير في نهم.
تسبح بين الأسماك... تطاردها... تشاكسها... تقرأ عليها بيان البحر ضد ما سرق منه من أبناء ولدوا في الأسر، من آباء أحرار استقدموا كالعبيد من أعماق المحيط... تسألها عن وطنها المسلوب، وعن أحلامها الممكنة... هل مازالت تحلم بالعودة إلى أعماق المحيط المفتوح؟
الجوع قاتل... ليس للجسد وحده... بل للمعنى... للفرح... للكرامة الآدمية... لزخم الممكنات التي تنبجس في النفس باحثة عن منفذ للظهور... إذا كان الجوع كافراً... فلا يجوز بالضرورة قتله... بل يجب إعتاقه من ذاته الفقيرة... يجب إشباع الجوع حتى لا يجوع الناس... وحتى لايجوع الجوع ذاته... يجب أن نعلم الأجيال القادمة أن "جنة" الوظيفة لا يُولَجُ رِياضُها، إطلاقاً، من أجل الطعام والرفاهية... ثمة غايات أسمى من دخول الجنة... بدون شك... لذلك يجب إشباع الجوع... تحرير خيال اللذة... إطلاق الجسد من أغلاله.
جميعنا كنا نأكل مبتهجين، مكتفين بذواتنا، في هذه الأمسية من يوم السبت... بعد أيام مضنية من الحركة العابثة، المبلدة، التي نسميها روتين الأسبوع... ها نحن نتحرر من إيقاع عاداتها الآن... وأنت أيضاً كنت تأكل... لكن ذهنك لا يتوقف عن لعبة الأفكار... متى تبرأ من ذاتك؟ متى تكف عن لهوك الدرامي؟ هل أنت مصلح اجتماعي؟ أم نبي من الأنبياء؟ سؤال ظل يتردد صداه في أعماق نفسك منذ سنين: نحن الناجون من حروب الوقت الكالح، هل نحيا الآن في الحاضر، حقاً، أم نحيا في الماضي / الحاضر... عبر كسر دوائر الحاضر / الماضي؟
هل نأكل ما نشتهي الآن، أم إننا نأكل خبز الأحلام... نمضغ أطياف الرغبات؟
الذكريات تسكننا، ولا سبيل لها لتهجرنا ونهجرها... هل نحب حبيباتنا، زوجاتنا، أم نحب تلك الفراشات المتوجات بأحلام الطفولة... الضائعات فينا، في ذهول اللاشعور؟
نظرت إلى الأكواريوم نظرة خاطفة... كانت السمكة الطفلة، القرمزية، تحدق في... وتبتسم... كأنها تبتسم لي بشفتيها الصغيرتين، المكتنزتين... أبتسم أنا أيضاً... وأحاول أن أخفي ابتسامتي كي لايقال إني مصاب بلوثة ما، لأن معايير وبرتوكولات التحضر المخادع تفرض عليك أن تنصهر في الحشد المشغول بغرائزه النهمة.
الكل يأكل محتفياً بسعادة اللحظات الهانئة، في المطعم الفخم، كلنا متحلقون كعشيرة بدائية موحدة حول نداءات غرائزها.
رشيد مليح.
المغرب.
+++++++++++
* نبذة مختصرة من السيرة الذاتية للكاتب.
رشيد مليح؛
من مواليد مدينة الدارالبيضاء.
أستاذ الثانوي التأهيلي / لغة عربية.
باحث في سلك الدكتوراه / تخصص سرد حديث.
يكتب في القصة والشعر والنقد.
صدر له ديوان شعري: "قارة من الفوانيس".
نشرت له مجموعة من القصص ضمن كتب إبداعية جماعية.
نشرت له عديد قصص ومقالات نقدية بملاحق ثقافية وطنية وعربية.
لديه أعمال أدبية قيد الطبع.
حاصل على جوائز أدبية.
تعليقات
إرسال تعليق