غشاوة / قصة قصيرة / د. سليمة فريندي / المغرب.
{ غشاوة }
قصة قصيرة.
تلومني أمي دائماً على ركل الرحم، تعجلتُ
كثيراً فض الفقاعة، وأتعبتها كثيراً في حملها...
لا أنكر أنني شخص معروف بالعجلة عند كل من يعرفني، وأدفع ثمن عجلتي باهضاً، لكنني رغم كل ذلك لم أستوعب أبداً سبب استعجالي الخروج من القاعة، فقد كان عالمي جميلاً هادئاً آمناً، أنعم بلمسات أمي وحنوها وهي تمرر أناملها علي، تغني لي بصوتها الرخيم نشيدها الملائكي الذي طالما رددته على مسامعي كي أهنأ وأسعد بعالمي، كانت كلمات الأغنية عن الوفاء والحب...
عشت تلك الأحاسيس الرهيفة والرقيقة بكل معانيها هناك، كانت تصلني عبر الحبل السري، وعبر اللمسات، والهمسات، ودقات القلب، وعبر الأصوات...
حب ناعم، شفيف، جميل، وساحر، حتى أبي كنت أسمعه وهو يضحك عندما كانت تحكي له أمي عن ركلاتي وحركاتي.
إنه عالم رائع دافء مليء بالصدق والحب والحنان، وكل ما قد يحلم به الإنسان في الوجود.
غير أني وللأسف الشديد كنت جنيناً شقياً بطرت بالنعمة، وأتعبت أمي كثيراً في حملها، ولم أرحمها.
كنت مستعجلاً الخروج جداً، وفي كل مرة كنت أحاول فيها فض الفقاعة قبل الأوان كانت أمي تهب إلى طبيبها وتستنجد به وبعلمه ليمنعني من تحقيق رغبتي المجنونة... يتدخل بكل وسائله وإمكاناته وأدويته، ويسخر كل خبرته ومعرفته لزجري وإبقائي داخل الفقاعة قدر الإمكان، حتى إنه، عقب إحدى محاولاتي، حجز أمي في المشفى، وأبقاها مستلقية على ظهرها مدة شهر دون أن تتحرك.... عانت المسكينة كثيراً بسببي.
ومع ذلك، لم أيأس من محاولاتي في فض الفقاعة، فلقد كانت أحلامي أكبر من حجمي، ورغبتي أضحت جامحة في التعرف على أصحاب الأصوات التي كانت تصلني من الخارج، ومتلهفاً على رؤية عالمهم.
وذات محاولة، نجحت، سخرت كل قوتي وإصراري، وتمكنت من فض الفقاعة، وخرجت. وكم كانت خيبتي غير متوقعة وفارقة! صدمت صدمة كبيرة، وخذلت خذلاناً عظيماً، فالناس الذين قمت بكل تلك المحاولات من أجلهم وضحيت بعالم الفقاعة لأراهم، وكنت متلهفاً لمعرفتهم لايعرفون معنى الحب ومعنى الوفاء... الكل فيهم يركض وراء المصلحة، والجميع يلهث خلف قضاء المآرب، وقد يعرضونك للبيع في سوق نخاسة حقير في سبيل إدراك غايتهم.
عالم يضج بالأصوات والضوضاء والألوان والأقنعة... مسرح كبير، كل ممثل فيه يؤدي مشهداً معيناً فوق الخشبة، ويحاول جاهداً أن يكون هو البطل ليحظى بالتصفيق والإطراء... حتى ولو استدعى الأمر أن يرفع صوته ويصرخ في وجه غيره، وقد يمارس شروره عليه، ويسحقه لو تطلب الأمر... المهم بالنسبة له هو أداء الدور الذي قد يفرض عليه في كثير من الأحيان أن يتقنع بمئات الأقنعة، ويتلون بكل الألوان مثل الحرباء، ليبلغ هدفه، ويصل إلى مراده، دون الاكتراث بمن يكون معه، وما قد يتسبب له من ألم ووجع.
المهم عنده هو النهاية، وأن يدرك الغاية... أما أنا، فأدركت كم كنت غبياً..
د. سليمة فريندي.
المغرب.
تعليقات
إرسال تعليق