جدتي / نص سردي / الدكتورة سليمة فريندي / المغرب.



د.سليمة فريندي


                      { جدتي } 

دافئ جداً فراش جدتي، كنت في طفولتي أسحب نفسي كل ليلة لأنام إلى حانب جدتي في سريرها الواسع، وأحظى بحكاياتها العجيبة، وحرارة جسمها في ليالي الشتاء الباردة.

كنت أقترب منها، وأقبل جبينها المشرق، فتضيء روحي وتصفو نفسي، أتأمل وجهها الوضاء، وعينيها الصافيتين، وهي تحرك شفتيها بصوت كاتم، وتحرك سبابتها ممررة حبات التسبيح البيضاء اللامعة والبراقة كالنجمات في كبد السماء ليلاً.

امرأة سبعينية تشرف على شؤون بيتها وتعمل بدأب النمل دون تأفف أو تضجر، تطبخ طبيخها وتخبز خبزها دون ملح كل يوم، وتسقي وتعتني بأزهارها وورودها بكل حب ودعة، وأنا أرقبها من النافذة، كنت أزورها كل يوم، وأحيانا أنام عندها، أنتشي برؤيتها، وهي تتفقد مملكتها الصغيرة، أستمد منها الطاقة والقوة، وحب الحياة بكل تفاصيلها، وبساطتها. كنت أعشق جدتي الحنونة، روحها الطيبة، ونظرتها للحياة، كلامها وحكيها مع الناس، أشياءها، خزانتها المنقوشة، ملابسها المرتبة، عطرها الزكي، طبيخها الشهي، حتى خبزها رغم أنه كان معجونا بلا ملح، أحببت طعمه.

ولازالت جدتي رحمها الله، بطلة كل أحلامي، ومثلي الأعلى في الحياة... أناجيها وأحكي لها همومي وعذاباتي، وأبوح لها بأسراري، أعود إلى عالمها كلما صفت ذاكرتي وتملكني الحنين إلى ذلك الزمن الجميل، وتاقت روحي إلى فضاء ذلك البيت الآمن الهادئ إلا من صوت جدي وهو يشتم ويلطم و يصرخ في وجه ذلك الملاك الطاهر:

— "لماذا وضعت ملحاً زائداً في الطعام؟ 

كيف لك أن تهرقي الحليب على الأرض؟

لماذا لم تكو القميص الأبيض؟

لم تعودي صالحة لأي شيء أيتها العاجزة".

أذكر أنه في إحدى الليالي ضربها على ظهرها ضربة قوية لأنها نسيت الباب مفتوحاً ولم تغلقه، نظرت مشفقة إلى جدتي وقد تملكها الرعب والفزع، كتمت أنفاسها وابتلعت لسانها، لم أتمالك نفسي ونسيت حدودي ولم أر فيه إلا صورة رجل ظالم قاهر، صرخت في وجهه:

— "كفى ظالماً... كفى قهراً... كفى تجريحاً... كفى ضرباً... 

 لماذا تعامل جدتي هكذا؟". 

دخلت في حالة هستيرية من البكاء والصراخ، والعويل... صفعني جدي صفعة قوية أسقطتني أرضاً، ولم أعد أرى سوى هالات سوداء... ظلام أسود حالك كسواد ظلم جدي لجدتي يحيط بي ويدفعني إلى هوة سحيقة و عميقة.

صرخت  صرخة مدوية بكل مافي أعماقي من قوة... ثم دخلت في غيبوبة، و لم أعد أعِ بمن حولي، ولا بماذا حدث بالتفصيل بعدها.

استفقت بعد الحادث بثلاث ساعات، كنت مصدعة وجد مرهقة ومتعبة... صرت أبحث هنا وهناك عن ملاكي وأسأل عنه:

— "جدتي... جدتي...". 

 لقد كانت جدتي طوال الوقت جالسة بالقرب مني، تحرسني، وتدعو لي، وتراقب أنفاسي، نظرت إليها بعينين دامعتين وقلت لها في نفسي:

— "آه يا جدتي الغالية، كم أحبك وأقدرك وأقدر صبرك وتحملك.

كيف لك وأنت بهذه الطيبة والحنان أن تتحملي كل هذه القسوة والعنف وتستمري في الحياة والعطاء بتبسم وصبر، لا لشيء إلا لأنك تحرصين على سعادتنا نحن، ورؤية كل أولادك وأحفادك مجتمعين وتفرحين؟! 

كم أنت عظيمة يا جدتي! رحمك الله وأسكنك الفردوس الأعلى".


د. سليمة فريندي.

المغرب.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في رواية "عِقد المانوليا" للكاتبة المغربية نعيمة السي أعراب بقلم الناقد عز الدين الماعزي

العاشق الأسود / قصة قصيرة / نعيمة السي أعراب.

أطياف المرايا / قصة قصيرة / الأديب المغربي الأستاذ رشيد مليح.