خانات وجع / قصة قصيرة / الأديبة المغربية الأستاذة خديجة بوعلي.


 

خانات وجع.

قصة قصيرة.

 

بعض الذكريات من شدة مرارتها، تظل عالقة في حلق العمر... لا مناص من السكون فيها عند 

الأرق، وأحياناً بجانب شرفة أيام المطر... ما زال الأخ يذكر ذلك اليوم... يوماً طويلاً كان... 

عارياً من كل لون أو جمال... متسعاً... شاسعاً بحجم البحر... مهيباً كغابة وقت غروب 

الشمس.    

 يذكر... عندما عرج بها وهو عائد من سفره... كانت رائحة النهاية تنبعث في كل مكان... من 

كل أركان البيت، ومن زوايا كل عباراتها الثقيلة المكتظة أسى... مطر من خريف يهزم ربيعاً 

يانع النور والبهجة كان دوماً... ترى هل فار التنور؟ 

طرق بابها... لابد من الاطمئنان على صحتها، فقد كانت مريضة منذ شهور خلت، زارها فيها 

العديد من المرات، لكن لزيارته هذه المرة عبق ذو طعم خاص... يجِل عن الوصف ويضيق عن 

التفسير... فراغ غريب يتملك كل لحظات الزيارة... وجل شديد يسد المسام... يحبس الأنفاس... 

حنق شديد يصفد كل الإحساسات... يرج الأحشاء رج يوم النفير وارتجاج الأرض والسماوات.  

وجد الأخ أخته في حالة استياء عارم، كل الحياة التي كانت تدب في عينيها... في حركاتها 

توارت خلف ستار اكتئاب وحسرة... حالة إحباط كالتي تصيب من أغرق عتي الموج كل 

مراكبه.                      

ملقاة على كنبة لا تتحرك إلا بمساعدة ابنتها الوحيدة... تساعدها وتقضي حاجاتها في تأفف 

وتذمر... نعم تذمر، جزاء معكوس على سابقةِ يد أم حنون بعطاء سخاء ما انتظرت بعده من 

جزاء... منذ كانت الوليدة قطعة لحم في المهد، إلى حين إجهاز هذه الوعكة الصحية اللعينة التي 

أماطت اللثام عن حقيقة مذاقها العلقم ـــ قد تمثل استثناء شاذاً من قاعدة ـــ وهبت لابنتها من الحب

والعناية والرعاية ما أذاب في طريقها كل عراقيل الحياة... وفرت لها الضروريات، كما لم تتوان

في تحقيق المستحيلات... وهذا رفيق الدرب حبيب الأمس... زوجها الذي واجهت من أجله مد 

الطوفان، واختارته يوماً عن حب واقتناع، ضداً على إرادة الأهل ونصائح لإخوان، هو الآن لا 

يحدثها إلا استهزاء... فيا لسخرية الأقدار... عبثاً يعانق الأخ أخته العليلة... لعله يضمد روحها 

المثخنة بالجراح... يهدهدها كما الطفلة بسرد نكت أحبتها من زمان... بقصص من أيام الصبا 

والفرحة... حكايات ألفت سماعها منه كلما جمعتهما الأيام التي تفرق بين المرء وابنه، والأخ 

وأخيه، وصاحبته وفصيلته التي تؤويه... يسردان دون توقف ما علق بالذاكرة لعلهما يبعثان 

الدفء في الحنايا... ويخففان على التجاعيد وطء حوافر الزمان. 

تناولا الغذاء، لكن... وفي حال من يخفف من وطء استعجال العودة، دعاها للخروج في نزهة...  

كل شيء يمر بسرعة... كأنما هو في سباق مع الزمن...وها هو ذا يسندها كتفيه... ينزلها الدرج 

بخطوات وئيدة متثاقلة عليه، عاجزة عن طي المسافة بين المنزل والسيارة المركونة في باب 

البيت.  يقعدها بعد جهد جهيد إلى جانبه في السيارة... يشغل المحرك... ينطلق، يشغل معه 

شريطاً يعجبها حتى النخاع... شريطاً يذكرها بمدينتها الغالية... بأهلها... بكل أصدقاء صباها 

المفقود.                                

على نغمات شريط محمد رويشة: "إيناس إيناس"... ووتر النوستالجيا والحنين... بدأت 

تتحدث بصوت خافت... صوت أثملته خدعة الحياة بجحود وليدة وحيدة، وخذلان رفيق 

العمر... تختزل حياتها كلها في برهة زمن... في شريط قصير بحمولة سنواته الطوال المثقلة 

همّاً وندبة حظ، وتضحيات جساماً... كل كلامها يفوح حسرة وأسفاً... لخصت كل ذلك في 

عبارة: "زربت بزاف أخويا"... عبارة وقعت عليه وقع الصاعقة، وخنجراً مسدداً ينغرز في 

جوفه... يوخزه كلما حطت به غفوة الفِكَر في أطلال ذكراها... كانت هذه آخر مرة يراها... آخر 

مرة يحظى بمعانقتها... باستنشاق عبق روحها الطيبة... آخر مرة كانت... ليعود بعد أيام 

لحضور مراسيم دفنها... وقد أسلمت في غيابه روحها المثقلة بأحزان تنوء بحملها الجبال للباري 

المتعال. 

آه ! كم صعب أن يفنى الإنسان حسرة وكمداً كم صعب أن يشعر في اللحظات الأخيرة بأن كل 

العمر ضاع سدى... وأن كل ما من أجله غرسا لغرس، وسقى الورد، وقلب الأرض، وحفر البئر في جوف القفر... كان هباء منثوراً... كم صعب أن يشعر في آخر أيام العمر بأن كل ما من أجله 

حفر الأخاديد على محيا الأيام تعباً وركضاً... أضحى يباباً... واستحال سرابا. 

هي قصة كل النساء اللائي يؤثرن على أنفسهن ولو كانت بهن خصاصة...

قصة من تنسيهن أعباء الأيام أن لأنفسهن عليهن حقاً... فقد حق لهن القول: ضاع العمر يا أنا.

خديجة بوعلي

المغرب.


 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في رواية "عِقد المانوليا" للكاتبة المغربية نعيمة السي أعراب بقلم الناقد عز الدين الماعزي

العاشق الأسود / قصة قصيرة / نعيمة السي أعراب.

أطياف المرايا / قصة قصيرة / الأديب المغربي الأستاذ رشيد مليح.