دراجة أبي / حنين ذكريات / الأديب الشاعر والقاص والمسرحي الأستاذ محمد علي عفارة / سوريا.


 * دراجة أبي *
 حنين ذكريات.
                      M-Ali Afara 

تغتالنا ضفائر الحنين بعبقها، فنغدو نزلاء لصور تدثرت بأحضان الماضي.
حين تتجمد في ذاكرتنا لحظات الزمن المنساب نحو الأفق البعيد، لا يعود لنا ملاذ إلا ظلالها. 
قطارنا المحمل. بصفحاتنا الزمنية عبر بنا ثم غفا على ضفاف عفرتها جدائل الجوري بطعم الفرح.
يدرك أبي تماماً المسافة الشاسعة التي تفصل بين دراجته القديمة الآلية الملقبة ب (أم الغرة) ودراجة ولده حمدي الحديثة ذات اللونين الأسود والكحلي متداخلين مع خطين أحدهما عسلي
 والأخر سماوي، والتي اسمها يشابه اسم أختي الوسطى مع أداة النداء (يا مها).
الفرق بين الاثنتين كبير جداً، فسرعة الأولى، التي كنا نلقبها بأم الديناصورات، كانت كسلحفاة بين شتلات الخرنوب.
أما الجديدة فكانت كالسهم، كالشهاب حين يعبر فضاءات السماء، وهي مدللة كلَّ الدلال، فالاقتراب منها كان ضرباً من ضروب المخاطرة، فالمقترب من مضاربها ربما تلحق به موجة من الشتم، ويتبعها أخي بقذيفةٍ من كندرة أو فردة قبقاب.  
أما "أم الغرة" فكان بيننا وبينها صحبة طويلة ومساحات للود، ولا مشكلة إن اقتربنا منها أو ركبنا على ظهرها، فهي من حملت همومنا بصمت دون تذمر أو تأفف، كانت تحملنا إلى مدارسنا أيام البرد والحر، وتصحبنا في مشاورينا إلى الغابة التي تحتضن الكتف الغربي لمدينتنا... أفراد العائلة كلهم يتذكرون جيداً حين ارتفعت درجة حرارة أخي الصغير ذات ليلة زارتها القذائف والصواريخ مشطت كلّ الأحياء. 
سيارات الإسعاف كانت منشغلة، ولا راداً لاستغاثة أو طلب نجدة، وحدها "أم الغرة" كانت على عهد الوفاء. 
على عجل  تم نقل أخي إلى المشفى، وأنقذ من حمى التهاب القشرة المغلفة للدماغ
 السحايا والتي غالباً ما تكون نتائجها كارثية كفقدان السمع أو النطق، أو الكثير من القدرات العقلية (الجنون)، لكن ما بال البشر يركنون للجديد ويتعففون من القديم.
فناء دارنا كان يحتضن الكثير من لقاءاتنا الجماعية، وفي كلَّ مرة كنا نلتقي لا نترك فرصة من فرص غياب والدي إلا وركبنا صهوات اغتيابه ورحنا نتقاذف الأسئلة عن سر تمسكه بأم الغرة ذات اللون الزيتي المخضرم، والتي سكنها التعب ولم تعد كما كانت في ريعان شبابها؟
قال أحمد ذات، مرة بعد أن ارتسمت على وجهه علامات السخرية والمزح، هي تذكره بالأيام الخوالي حين كان يضع أمكم وراءه ويذهبان إلى دوار المنشية لتناول صحنين من البوظة الشهية، وبعدها يطوفان الكورنيش عدّة مرات، يا جماعة والله أيام الرومانسية لا تنسى، ولها في القلب مكان، ومن ثمّ يغط في موجة من الضحك. 
أما أختنا الكبرى خلود، وبعد أن عدلت نظاراتها، راحت تشرح لنا الأمر فلسفياً على أنّه أعمق بكثير مما نعتقد أو نظن، فهي حالة مرتبطة بالإحساس الوجداني للفرد والمناخات العاطفية التي تربط الإنسان بالأشياء، وما ينشأ من حالة ود بينهما، يصعب جداً تمزيق هذه العلاقة، وضربت لنا مثل جارنا رمزي. 
أنتم تعلمون جيداً أن جارنا كان يربي عصفوراً كنارياً جذري اللون، كأنه فرد من أفراد العائلة، وكانت بينهما علاقة وجدانية أدهشت الجميع، حين توفي جارنا قبيل الفجر بقليل وجدوا أن الطائر هو أيضاً فارق الحياة مع خيوط الشمس الأولى.
هزّت رأسها مها بإعجاب وأتبعت: تصوروا يا جماعة بأن صديقتي هيام قالت لي إن جدها جاءته أزمة القلبية على أثرها فارق الحياة بعد يومين من نزوله المشفى حين تيقن بأن أولاده باعوا الجرار الفرسان الأحمر.
أما والدتي فكانت تقتنص أغلب الفرص للانقضاض على والدي والهجوم على ضرتها أم الغرة، فصوتها المجلجل ما زال يتردد صداه في أذاننا: خذ هذه الكركوبة من بيتي، وأرم بها على أقرب مكب للخردوات، انظر، ألا ترى أنها تحتل مكاناً كبيراً في غرفة المؤونة، ألا ترى الستائر العنكبوتية التي تلفها من أولها لآخرها... وبعد هذه الرشقات الكلامية من والدتي كان والدي يطلق تنهدات تملؤها الزفرات والأثنين، ثم يلتقط لفافة تبغ من النوع طويل القامة يشعلها بعود ثقاب، ثم يرمي به إلى أحد أصص النباتات التي تزين فناء الدار، بعدها يترك إشارات الحزن ويودع المكان. 
كانت والدتنا تمني النفس أن تسطر انتصاراً ولو وهمياً، كانت تلحق به وتعاود الرشق:
— يا سلام على هذا الحل، اشعل سيجارته ومضى، ثمّ تركني التظى بنيران الغيظ.  تعال، عد إلى هنا وخلصني منها.
يلتفت والدي نصف التفاتة، بعدها يضم لفافة تبغه بين أصابعه ويشير بسبابته لأمي: تذكري جيداً قول الأولين (يلي مالو قديم مالو جديد). 
كبركان هائج، والغضب يفور من خلية من خلاياها، كانت ترد عليه:
أنا أم البنين والبنات تقارنني بتلك الملعونة؟ يا حيف على العشرة، أنا التي أفنيت عمري وأمضيت حياتي كلها خدمةً لك ولأولاك، ولكن ماذا أفعل، هذا حظي التعس، سامحنا يا ربي. 
ثم تقفل عائدةً إلى المطبخ، وغالباً ما تكون النهاية تحطم صحن زجاجي، أو زعيق طنجرة هوت من أحد الرفوف لتقبل وجه الأرض، وهذه جولة من جولات لم تسجل فيها أي تقدم على التخلص من ضرتها. 
في صباح يوم نيساني، الشمس راحت تقبل الحائط الغربي لفناء الدارة، وريقات الدالية تتراقص ترنماً بوشوشات الدوري ونسمات الصباح.
استيقظ أهل البيت على صوت همهمات وحشرجات عميقة، زغرودة انطلقت من فم أمي. بطول نهر العاصي حين لاح لنا جسد والدي وهو يجر وليفته أم الغرة إلى الخارج.
ثم أتبعتها بتنهدة وقالت: 
الحمد لله، جبل وانزاح عن صدري، لك الحمد يا ربي سمعت دعائي. الفتت نحونا ووجهها الباسم قالت:
اليوم أنا عازمتكم على مثلجات عند المنشية.
قال حمدي: مثلجات فقط؟ ألا ترين أن الحالة تتطلب أكثر من ذلك؟
ضربته أمي على كتفه ضربة خفيفة وقالت:
لا تكن طماعاً يا ولد.
لم يذرف أحد الدمع حين رأوها تغادر باب البيت، هي لحظات وتربعت على الرصيف أمام الباب، دار والدي حولها عدة دروات، جلس القرفصاء قالتها، أشعل لفافة تبغ، ومن وراء دخانها الكثيف راح يتأملها بعمق شديد وكأنه يراها للمرة الأولى.
رمى الثلث الأخير من لفافة تبغه، وهب مسرعاً إلى داخل البيت ثمّ عاد، كان يحمل بيده دلواً من الماء وإسفنجة وصابوناً، همس مبتسماً: ما رأيك بحمام يبعد عن كاهلك تعب وعناء السنين العجاف، ستعودين مثل الفرس الأصيلة، ستكونين كحمامة بيضاء.
 كان يرد تحيات الجيران الذين مروا به دون اكتراث لأنه منهمك ومنشغل جداً لدرجة الاستغراق الكامل في حالته. 
حبات العرق كانت تتزاحم على جبينه كحبات اللؤلؤ. 
صبّ الماء عليها بعد الصابون، وراح يلتقط الماء بمنشفة رمادية اللون، وأخيرا انتهى... ها هي ذي بكامل أناقتها.
كنا نحن أولاده نتبادل السؤال: ما الهدف من هذه العملية، وما النتيجة المرجوة منها؟
هناك من قال إنها استعداد للبيع، فمن غير المعقول أن يبيعها والغبار يسكنها، هكذا تصبح أكثر جاذبية ويكون سعرها جيداً. 
رأي أخر قال: قلبي يحدثني أنه بعد الحمام سيعيدها إلى مكانها، وكأن أفعى لدغتها، صرخت أمي: لا وألف لا، لن أسمح بدخولها البيت ثانية، والله ثم والله إن أراد إعادتها سأغادر لبيت أهلي، وليحدث ما يحدث، خلاص طفح الكيل بي.    
عاد ليتأملها بإعجاب شديد، منسوب الأمل بأعلى مستوياته يأخذه بحيويته ليعيد صديقته للحياة مرة أخرى، و بذلك يدفنون أيام المواجع والفرقة إلى الأبد.
لكن لحظات الفرح والسعادة سرعان ما تذروها الرياح إلى عوالم الغيب، وتلقي بها إلى بحور لا قرار لها.
حاول تشغيلها، لكنها لم تستجب، رمى بكل توسلاته أمام الأنبياء والصالحين، لكن كل ذلك لم يجعلها تقتنع بالدوران، بيديه المرتجفتين سحب خاصرتها، علبة بلاستيكية شفافة، اقتلعها، دق بها على كفه ثم نفخ بها، ثمّ أعادها إلى مكانها، تفقد البنزين فوجده وافراً، لا أحد يستطيع أن يخمن مقدار الفرحة التي اجتاحته حين سمع صوت دوران محركها الذي كان يشبه صوت الجاروشة... راحت عيون الجيران تستطلع مصدر الصوت، كانت ترمقه بنظرات الانزعاج وعدم الارتياح.
ليذهبوا إلى الجحيم في خاطرهم، المهم أن صديقته عادت للحياة، وتنتصب أمامه كصبية في يوم العيد... كبهلوانٍ امتطى صهوات المغامرة واندفع ليسابق الريح.
نسمات الهواء ملأت جوارحه بالنشوة، تترك لذاكرته أن تتقح أبواها ونوافذها حنيناَ لأيام الماضي حين كان أطفاله يركبون أمامه، وخلفه، وهم يصرخون ويغنون: أسرع أكثر  كان النسيم يداعب ضفائر شعرهم الحريري.
راحت مركبته تشق الزمن، وتقضي على كلِّ تلال الحرمان.
في آخر الشارع ولدت حفرة عميقة لصيانة أنابيب المياه، فتح الفارس عينه، ارتبك، طلب المساعدة من الفرامل، لكن للأسف كانوا بعيدين عن رد لهفته.
لحظة بلمح البصر غاب العاشقان في غياهب هاوية لا مستقر لها.
التأم الجيران، حاولوا إخراجهما من تحت التراب المتهدم من رطوبة المياه المتخلخلة به.
كلُّ محاولاتنا لإخراجهما باءت بالفشل، وكأن أبي وصديقته تعاهدا على الرحيل معاً.
جلست على الرصيف، أسندت جسدي إلى شجرة الكينوا، وراحت كلمات أختي تنقر ذاكرتي و ثنايا مخيلتي، نعم هناك أشياء لا يمكن تصديقها، خصوصاً العلاقات التي يكون منبعها الوجدان الإنساني.
التم عدد آخر من الجيران، جاءت سيارات الإسعاف والإنقاذ، ولكن حضورهم كان متأخراً لسنين عديدة.

محمد علي اعفارة. 
سوريا.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في رواية "عِقد المانوليا" للكاتبة المغربية نعيمة السي أعراب بقلم الناقد عز الدين الماعزي

العاشق الأسود / قصة قصيرة / نعيمة السي أعراب.

أطياف المرايا / قصة قصيرة / الأديب المغربي الأستاذ رشيد مليح.